إنجاب طفل هو حلم الكثيرات مهما كانت المعوقات، ولكن أن ترفض الأم طفلها، هذا الكائن الضعيف الهش الذي يحتاج إلى رعايتها، فهذا قد يشير إلى من اكتئاب ما بعد الولادة.
ولكن هذه هي الحقيقة التي تعاني منها من 10 إلى 15 من بين كل 100 إمرأة اللاتي يصبن باكتئاب ما بعد الولادة في الفترة بين أسابيع قليلة بعد الإنجاب إلى ما يقرب من سنة كاملة.
وعلى الرغم من أن التحليلات الحديثة لعدة دراسات عالمية تم إجراؤها على تلك الظاهرة، والتي أسفرت عن أن 20% من الأمهات في الدول النامية يصبن باكتئاب ما بعد الولادة، وارتفاع نسبته بين الأمهات في البلدان الأعلى دخلاً، إلا أن هذا المرض كثيرًا ما يتم تجاهله، ولا يتم تشخيصه حتى في دول العالم المتقدمة.

ومن الضروري أن يتعرف المجتمع على هذا المرض باعتباره ليس خللاً أو ضعفًا في الشخصية أو قدرة الأم نفسها ووجوده ليس تشكيك في أمومتها بالتأكيد، مع ضرورة قبوله لمساعدتها على تخطي تلك المرحلة والخروج منها بسهولة.
خاصة أن اكتئاب ما بعد الولادة قد يكون في كثير من الأحيان من مضاعفات الولادة ليس أكثر، وبالتالي العلاج السريع وإدراك طبيعة المرض يسهل التغلب عليه ويجعل الأم ترتبط بطفلها بشكل صحي أسرع وأسهل.
” نفرته وكأنني رأيت وحشًا صغيرًا”
“كنت أنتظره بفارغ الصبر لأكثر من خمس سنوات، وبعدما ظهر أمامي نفرته وكأنني رأيت وحشًا صغيرًا” هذا ما بدأت به سعاد حديثها وهي تذرف دموع تعبر معها عن كم الآلآم التي عانت منها لشهور، بدلت فرحة تشوقت لرؤيتها لحزن شديد.
وتستكمل سعاد حديثها:
أستيقظ يوميًا مفزوعة من النوم بعد كابوس مزعج، ينهك أعصابي ويصيبني بهيستيريا البكاء لعدة ليالي متواصلة منذ أن خرجت من المشفى، بعد ولادة قيصرية متعثرة، لأجد نفسي أمام كائن صغير لا أعلم متى أتى وكيف أتى؟ لدرجة أنني عندما كنت أنظر إليه أجد الفزع قد دبّ في قلبي وأنفاسي تكاد تتوقف من شدة الخوف فابتعد عنه كيفما استطعت.
سعاد هي أم ثلاثينية، مثلها مثل الكثير من الأمهات اللاتي عانين من اكتئاب ما بعد الولادة، الذي رغم انتشار الكثير من التحليلات حوله واكتشاف جوانبه، إلا أن المجتمع الشرقي مازال يجهل حقيقته الكاملة، غير مدرك السبب الحقيقي الكامن وراءه.
معتبرًا أن ما يحدث للأم ما هو إلا هلاوس أو “دلع” حسب تعبير الكثيرين، ولا يعتبر أنه من الطبيعي أن تصاب الأم بمثل هذه الأعراض خاصة أنها تقبل على مرحلة جديدة لم تختبرها من قبل.
وعدم قبول هذا الواقع من طرف المجتمع يجعل من هذا المرض معضلة اجتماعية تزيد من سوء حالة الأم التي تشعر بالانعزال والخزي لأنه يُنظر إليها كأم غير جيدة.
طفلة تنجب طفلة…
كنت طفلة مدللة لأبويا حتى وصلت سن ال25، وعندها ارتبطت بحلم عمري، كانت فكرة الحمل والولادة كثيرًا ما تؤرقني، الى أن حدث الأمر الذي اعتبرته كارثة.
إنجي فتاة تبلغ من العمر 27 عامًا، لم تكن تحلم إلا بعش زوجية تتمتع فيه بالراحة والرخاء الدائم فيه مع حبيبها، ولا تدري نهائيًا أن الحمل هو مسؤولية كبيرة، إلى أن حملت لتجد ملامحها قد تغيرت وجسدها النحيل بدأ يأخذ منحنى آخر من الامتلاء، لدرجة أنها كانت تدركها الصدمة عند النظر الى المرآة من شكلها الجديد.
هذا ما جعلها تتألم كثيرًا أثناء حملها خاصة في الشهور الأخيرة، ولكن الصدمة الأصعب عندما وضعت انجي طفلها قبل موعده بشهرين بسبب تعثرها عند نزولها على الدرج.
“بمجرد ما أفقت من الوعي بعد عملية الولادة، وأنا لا أعلم ماذا حدث وكأنني كنت في غيبوبة، ولا أشعر بشيء سوى بالألم الشديد، حتى أنني لم أفكر بطفلي الذي كان في بطني قبل الحادثة، وعندما استعدت صحتي قليلاً بعدها بساعات أحضروا لي الطفل الذي بمجرد أن رأيته كنت أصرخ وأقول ” أبعدوه عني مش عايزة أشوفه”.
وتحكي إنجي عن الأسابيع التي قضتها في المستشفى مع محاولات الزوج لتقريب طفلها منها لمجرد أن يرضع بشكل طبيعي وهي ترفض، حتى أنه من شدة الرفض جفّ الحليب من صدرها، مما أصاب الجميع بخيبة الأمل واعتقدوا أنها مجنونة.
وتستكمل إنجي قصتها حيث تقول:
حتى بعد عودتنا إلى البيت لم ألمس الطفل ولم أحمله وكانت أمي وزوجي هم من يهتمون به ويرضعانه، كنت أتسلل ليلاً لأراه وعندما أنظر إليه لا أعرفه، وعندما أسمع صوت بكائه من غرفتي تنتابني حالة من البكاء الشديد.
وتعد الحادثة الأليمة التي تعرضت لها أنجي قبل الولادة هي السبب الرئيسي في دخولها حالة الاكتئاب الحاد تلك، وبالتالي لا يمكننا تعميم تلك الأعراض على كل حالات الاكتئاب.
حيث أن الأعراض تتفاوت حسب الطبيعة الفردية للتجربة والأحداث التي تتعرض لها الأم ونفسيتها، وسهولة التعامل مع المرض تكمن في مدى تقبلها له ومحاولة استيعابه والخروج منه.

ما هو اكتئاب ما بعد الولادة؟
حسب منظمة الصحة العالمية التي اعترفت باكتئاب ما بعد الولادة، كأحد الأمراض النفسية التي قد تتعرض لها المرأة أثناء فترة النفاس، فإن هذا المرض هو اضطراب نفسي، يصيب المرأة أحيانًا بعد ولادتها لطفلها في الفترة بعد الولادة بداية من الأسبوع الأول وقد يستمر لسنة لبعض الحالات.
وقد بينت منظمة الصحة العالمية أن أعراض هذا المرض تتمحور حول الحزن والقلق والخوف، إلى جانب مشاعر أخرى تصيب المرأة أثناء فترة النفاس، وهذه نتيجة للعديد من المشاكل النفسية والجسدية، إلى جانب تغير الهرمونات لدى المراة خلال فترة ما بعد الولادة، هذا إلى جانب المسئولية الجديدة المحمولة على عاتقها.
أسباب الإصابة باكتئاب ما بعد الولادة
رغم التطور العلمي الجم إلا أن الأسباب المؤدية لاكتئاب ما بعد الولادة لم يتم إحصاؤها بشكل كافي، ولكن ما أثبتته الدراسات أنه ليس هناك سبب واحد، بل هي عدة عوامل اجتمعت ضاغطة على الأم لتسبب لها هذا المرض، وقد ذكرت دراسة صادرة عن الكلية الملكية للأطباء النفسيين بانجلترا، أن الأسباب فد ترجع إلى:
1. إصابة الأم باكتئاب ما بعد الولادة من قبل.
2. عدم امتلاك الأم شريك قادر على مساندتها.
3. وضع الأم لطفلها قبل موعده أو وضعه مريضًا.
4. فقدها لأمها عندما كانت طفلة.
5. التعرض للعديد من الضغوطات خلال فترة قصيرة.
وتقول الدراسة أن هذه العوامل تجعل الأم تعاني من حالة من الفقدان، كأن تفقد العمل مشيرة إلى إمكانية إصابة الأم باكتئاب ما بعد الولادة، حتى لو لم تتعرض لأي من هذه العوامل ودون سبب واضح ومن ناحية أخرى وجود تلك العوامل لا تعني بالضرورة إصابة الأم باكتئاب ما بعد الولادة.
دور الهرمونات في الإصابة باكتئاب ما بعد الولادة
فيما تربط دراسات أخرى تعرض الأم لهذا المرض بعد الولادة بالتغيرات البيولوجية والجسدية التي تحدث، حيث تتعرض المرأة خلال فترة الحمل لتغيرات سريعة في مستوى هرموني الأستروجين والبروجيسترون، فيرتفع مستوى هذين الهرمونين لعشر أضعاف ثم ينخفض بشكل كبير خلال 72 ساعة من بعد الولادة، ليعود لمستواه الطبيعي كما كان قبل الحمل.
هذا إلى جانب حدوث قصور في الغدة الدرقية بعد الولادة، كما يرتفع مستوى الاندورفينات وهي مواد موجودة بالجسم تعمل على تحسين المزاج والحالة العصبية، لتنخفض بعد الولادة فجأة، مما يجعل هناك فرصة أكبر للإصابة باكتئاب ما بعد الولادة.
إضافة إلى اضطرابات النوم التي تعاني منها المراة بعد الولادة، وتحملها المزيد من الأعباء دون وجود من يساندها على حمل مسؤوليتها الجديدة.
وتعتبر الأعراض المستعرضة في الصورة أدناه أشهر علامات هذا النوع من الاكتئاب ولكن يبقى التشخيص الطبي الصحيح من مختص.

قابل للعلاج
يكلمنا علماء النفس بشكل دائم عن أولى خطوات العلاج من أي مرض نفسي، هو الاعتراف بالمرض واتخاذ القرار بالعلاج وعدم الخوف من المجاهرة به.
وهذا أيضًا بالنسبة لاكتئاب ما بعد الولادة الذي تعاني منه الكثير من السيدات ولكنهن يخجلن من الاعتراف بأنهن لا يشعرون بالفرح لقدوم المولود الجديد، بل ويعتقدون أنه اذا بحن بذلك قد يُتهمن بالجمود وقد يؤخذ أطفالهم منهن.
لذلك على الأم أن تكون ذات وعي أكبر لتسير في طريق العلاج بشكل أسرع وبهذا تنقذ نفسها أولًا وطفلها ثانيًا وزوجها وأسرتها ثالثًا.
وقد قدمت الدراسة السابقة الذكر الصادرة عن الكلية الملكية للأطباء النفسيين بانجلترا، عدة خطوات على الأم ممارستها، حتى تخفف من حالة الاكتئاب التي تعاني منها.

طريقك إلى الشفاء
1. انتهزي كلّ فرصة لتحصلي على قسط من الراحة. حاولي أن تتعلمي كيف تأخذي غفوات قصيرة، حيث يمكن لزوجك أن يرضع الطفل من الزجاجة أثناء الليل. وإن رغبت، يمكنك استعمال حليبك في هذه الرضعات.
2. احصلي على التغذية الكافية. إنّ الأطعمة الصحية مثل السلطات والخضار الطازجة والفواكه وعصائر الفواكه والحليب والحبوب، كلها مفيدة لك، وهي غنية بالفيتامينات ولا تحتاج إلى الكثير من الطهي.
أوجدي الوقت لتمضية وقت ممتع مع زوجك. حاولي أن تجدي جليسة أطفال واخرجا معًا لتناول وجبة أو لزيارة الأصدقاء.
3. اعملي على خلق أجواء حميمة بينك وبين زوجك إن كان ذلك في استطاعتك. على الأقل تبادلا القبل والعناق والملاطفة. سوف يعينكم ذلك ويساعد على استعادة المشاعر الجنسية الكاملة في فترة قصيرة، و لا تشعري بالذنب إن تطلّب ذلك بعض الوقت.
4. لا تلومي نفسك أو تلومي زوجك، فالحياة صعبة في مثل هذه الأوقات، وقد يقود الإحساس بالتعب والتوتر إلى الشجار. إنّ مهاجمة أحدكما الآخر قد يضعف علاقتكما في الوقت الذي هي بحاجة لأن تكون في أقوى حالاتها.
5. لا تخافي من طلب المساعدة عندما تشعرين بالحاجة إليها.
جرّبي قراءة هذا المقال أيضًا
ماذا بعد محاولات التشافي الذاتي من اكتئاب ما بعد الولادة؟
هناك الكثير من الأمهات اللاتي يحاولن الخروج من حالة الاكتئاب بأنفسهن، ولكن يفشلن بعد كل المحاولات المتكررة، وهنا يجب على الأم اللجوء لمتخصص يساعدها على الخروج من هذه الحالة، حتى لا تسوء بشكل يصعب احتماله، وحسب موقع Medical News Today فهناك طريقتين لعلاج اكتئاب ما بعد الولادة:
العلاج المعرفي السلوكي
يعتمد هذا العلاج على تحليل المشاعر والأفكار، التي تعاني منها الأم، واكتشاف أوجه الخلل التي أدت إليه، لعلاجها من خلال إحدى الطريقتين الأولى تتمثل في الجلسات الفردية والثانية الجماعية.
فقد تحتاج الأم فقط إلى شخص يستمع لها وليس بالضرورة أن يكون طبيب وهنا يأتي دور المعالج النفسي، الذي يستمع لتجربة المريضة وما يدور في خاطرها، يعطيها بعد ذلك بعض المهام تفعلها قبل المجيء للجلسة القادمة وهكذا مع باقي الجلسات إلى أن تشفى.
وفي حالة احتياج المريضة للعقاقير المضادة للاكتئاب أو الأدوية المهدئة حسب رأي المعالج فإنه يقوم بتحويلها لطبيب متخصص.
أما عن العلاج الجماعي فهو عبارة عن اجتماع مع عدد من الأشخاص يعانون من نفس المشكلة تسمى مجموعة الدعم ويتبادلون الحديث تحت إشراف معالج متخصص.
غير أن هذا النوع من العلاج غير معروف ولا يمارس في المنطقة العربية، لأنه مزال يُستهان بجديّة هذا المرض وبالصحة النفسية للمرأة في الثقافة الشائعة.
العلاج الدوائي
في حالة المرض المستعصي يلجأ الطبيب المعالج للعلاج الدوائي إلى جانب الجلسات الفردية مع إعطاء عدد من الإرشادات التي تساعد الأم على الخروج من الاكتئاب مثل:
– مساندة الزوج والأصدقاء للمريضة.
– الاطلاع حول ما تمر به الأم والطفل معًا في تلك الفترة.
– ممارسة الأنشطة الرياضية.
– تناول الفيتامينات والمكملات الغذائية للتمكن من التغلب على تعب السهر والضغط العصبي والنفسي.
– الخروج والتمشية في أماكن مفتوحة ما يخرج المشاعر النفسية السلبية.
ورغم كون مرض اكتئاب ما بعد الولادة من أصعب الأمراض النفسية التي قد تمر منها الأم طوال فترة أمومتها.
إلا أنه مع الوعي والمثابرة على العلاج يمكن التغلب عليه بمساندة العلم والتثقيف، وإدراك أن الأمر برمته بسيط يمكن العبور منه بسهولة
فالكل هنا له دور من أجل عبور الأسرة إلى بر الأمان بعد خوض تلك التجربة الصعبة.