حياة

خمسون ظلّ من وباء الوحـدة

خمسون ظلّ من وباء الوحـدة
شارك الموضوع

قد يراها البعض نعمة مُتَنَكّرة في شكل نقمة في عالم مَليء بالضوضاء والضجيج، القيل والقال، الضغط والتوتر أينما وليت وجهك!

ثرثرات ومُزايدات فارغة في الواقع الفيزيائي وفي العالم الافتراضي، وقد يمقتها آخرون لأنها بلا معنى وتضرب عرض الحائط جوهر التواصل والروابط الانسانية وطبعًا قد تكون قاتلة حرفيًا في كثير من الأحيان!

الوحدة تجربة شخصية جدًا، ومَعَ هذا يرتشف الكل من كأسها المُرّ.

ولكننا نُلامسها من زوايا مختلفة حيث السن ومجموع التجارب الحياتية يُعطيانها نكهة مُتَبَايِنة لدى كل واحد منا، حتى ولو جمعتنا نفس الحدود الجغرافية والعوامل الاجتماعية، كل منا سوف يختبرها في مرحلة معينة من مراحل حياته بشكل أو بآخر!

الأسطر القادمة سوف تُلقي بعضًا من الضوء فقط على أوجه مختلفة لهذه الحالة الإنسانية التي باتت مُتفشيّة كوباء ينخر العظام.

ومن سخرية الأقدار أنها تُعشعش في كُنْه كائنات تعيش في حقبة زمنية من تاريخ البشر سبقت غيرها بسنوات ضوئية من حيث توافر وسائل التواصل الاجتماعي والتقارب الإنساني!

الوحدة بنكهة عربية

من المضحك جدًا أن نعرف أن الوحدة يمكن أن تتطَبّع بالخلفية الثقافية للأفراد! الوحدة عند شخص أمريكي ليست نفسها كما يختبرها الفرد العربي. هل هذا ممكن؟! نعم بالتأكيد.

لأننا نرى الكون كله من منظور غير مَوْضُوعِيّ مهما أقنعنا أنفسنا بحجج المنطق والعقلانية نبقى قادرين فقط على إبصارٍ ميكْرُوسْكُوبِيّ، فاقدين القدرة على رؤية ذاك الكُلّيّ الشامل والأكبر من حواسنا ومَدَارِكنا المحدودة رغم أنفنا.

لذا سنجد أن كل حالة نفسية، فكرية أو عاطفية نختبرها في الحياة ستكون مُتلوّنة بألوان المُجتمع، الثقافة ومستوى الوعي. ويستمر هذا التخصيص في الدوران والالتفاف حول كينونة الإنسان إلى أن يطال شريط حمضه النووي فيُعدّل فيه بما فيه الكفاية ليخلق أجيالا تتوارث الوحـدة كجزء من طابع الشخصية لديها.

للأسف يعيش ملايين الشباب العربي حالة كئيبة جدًا من الفراغ العاطفي تجعل معظمهم عرضة لسحق نفسي كبير.

ذلك الذي يجعل من شاب ينزوي في غرفته لأيام دون أدنى إحساس بالحاجة إلى التواصل مع باقي أفراد أسرته، هو ذاك الهروب إلى الداخل الذي يجعل من فتاة في مقتبل العمر تعيش حياة شبه مزدوجة؛ واحدة هادئة، مهذبة وملتزمة مع أهلها وفي مدرستها وأخرى جامحة وثائرة في خيالها والخواطر التي تدونها في مُذَكّرَاتها.

هو أيضًا ذلك الجحيم المُتقد في صدر شاب أو شابة يعيشان قصة حب من طرف واحد لأنهما لم يتمكنا يومًا من البوح بمكنونات صدرهما.

وهو أيضًا تلك الحالة من الإحباط والإحساس بالفشل حتى قبل أدنى محاولة نهوض، كحالة فتاة تعيش ليلة تلو الأخرى تذرف الدموع على أغاني إليسا الحزينة وعلى حبها الذي لم يكتمل وفارس أحلامها الذي لم يصل بعد لينتشلها من قبضة أهلها وكبت مجتمع بأكمله.

حيث تتسلل اقتباسات أحلام مستغانمي المتناثرة على حسابها على فيسبوك إليها وتستحوذ على تفكيرها حتى تقرر يومًا ما أن تشتري إحدى رواياتها مثل ‘الأسود يليق بك’، فتكتمل ملحمتها في الاغتراب الاجتماعي والعاطفي وقد تضيع هناك إلى الأبد!

ولكن بالنسبة لها أن تبقى حبيسة عالمها الصغير الكئيب هو نوع من الأمان من غدر الزمان ومواقف البشر المتقلبة والألم النفسي للوحدة.

لابد أن الأسرة العربية المعاصرة تُعاني من تصدعات عديدة نتيجة لمشاكل اجتماعية واقتصادية مهمة.

فمستوى الاستقرار النفسي والاقتدار المعرفي للأبوين ومهاراتهما في إدارة تفاصيل الحياة عمومًا في زمن التسارع التكنولوجي كلها عوامل جد مؤثرة في جودة عيش الأفراد ومدى امتلاكهم لمقومات الصحة النفسية، التفكير الإيجابي والقدرة على مواجهة ضغوطات الحياة ومِحنها.

نسب الطلاق المرتفعة في الدول العربية، التفكك الأسري والعنف المنزلي ضد المرأة والطفل هي أسباب رئيسة في ارتفاع معدلات الاكتئاب، العزلة والإحساس بالوحدة.

فلا يمكننا تحليل الوحدة ووضعها تحت المجهر دون ربطها بباقي المشاكل الاجتماعية، لأن كل شيء مُترابط فعلاً.

الوحدة في العلاقات العاطفية

تلك الحالة من الفراغ لدى الشباب هي ما ستتحول لاحقًا إلى جوع عاطفي شديد سيتمظهر في علاقاتهم الخاصة، وهذه المرة هو ذاك النوع من الوحدة الذي قد لا يبدو حقيقيًا من الظاهر والحديث عنه يضع صاحبه في موقف المُتوهّم لأنه في هذه الحالة يكون برفقة شريك عاطفي من المفترض ألا يشعر معه بهكذا شعور.

ولكن إن حدث وحصل هذا الأمر فيمكن وصفه كالآتي؛ هُوَّة كبيرة وعميقة كثقب أسود لا تعرف بالضبط ماذا يمكن أن يكون داخله، لا شيء ملموس سوى شعور باتساع وسط جسدك بين حلقك وقفصك الصدري، يُصاحبه خوف من مواجهة الحقيقة وهي أنك وحيد وبائس وعليك ربما أن تفعل شيئًا حيال ذلك!

والحقيقة القبيحة أنه إذا كان هناك شخص أعرج وقرر أن يتزوج أو يدخل في علاقة عاطفية فإعاقته لن تختفي بمجرد أنه أصبح مرتبطًا بشخص آخر، مثال سيء جدًا …أدرك هذا ولكن غالبًا ما يلجأ الأفراد في المجتمعات العربية خاصة، إلى الارتباط العاطفي هروبًا من الشعور بالوحدة والإحساس العام بعدم الاكتمال إلا بوجود آخر.

وهو أبعد ما يمكن أن يكون عن الحب الحقيقي غير المُقترن بشروط، الذي يقضي أن يكون الارتباط العاطفي فيه آمن حيث تأخذ الطرف الآخر كجزء من نفسك مع كل جوانبه اللامعة والمظلمة ويُبادلك هو نفس الشيء فلا تضطر أن تخسر جزءًا من ذاتك.

ما يحصل عادة هو ذاك التشبث المرضي بفكرة أن شخص آخر عنده القدرة على إعطائك ما لم تنجح أنت في إعطائه لنفسك، وفاقد الشيء لا يُعطيه أبدًا، فتستمر دورة المعاناة.

فحين يدخل الأشخاص أو بمعنى أصح يرمون بأنفسهم في علاقات بسبب إحساسهم بنقص ما ومحاولة تعويضه غالبًا ما ستكون النتيجة أنهم يعيشون وحيدين في تعاستهم غير المرئية.

الوحدة حين تمكّن منا مارك زوكربيرغ

مهمة فيسبوك منذ البداية كانت كالتالي؛ جعل العالم أكثر انفتاحًا واتصالاً.

ولكن مارك تمادى إلى أبعد الحدود حتى تلاشت وتفتّت هذه المهمة ليحل محلها هدف آخر وهو الجشع اللامتناهي والرغبة في جني المزيد من الأرباج من خلال حبس المستخدمين بشكل دائم مع شاشات هواتفهم الذكية وزراعة الوهم بأنهم لا يستطيعون قضاء يوم واحد دون أن يوصلوا أدمغتهم بقابس السوشيال ميديا.

حيث يأخذون جرعاتهم اليومية من ‘بلاسيبو‘ الثقة بالنفس وتقدير الذات والحب والإعجاب من خلال تجميع اللايكات وحفنة من الأصدقاء المدمنين أيضًا؛ عالم مزيف بامتياز وكلما أمضينا فيه المزيد من الوقت كلما تسطّحت شخصياتنا وباتت مزيفة أكثر.

ليس هناك أدنى شك بالمزايا العديدة لوسائل التواصل الاجتماعي وقدرتها على جعل العالم قرية صغيرة بالفعل.

غَيْرَ أَنَّ كل شيء يزيد عن حدّه ينقلب ضده. ففي استطلاع أجرته شركة Cigna Health Insurance Company تمّ الحديث عنه في مقال على مجلة psycom، أفاد أن 46٪ من المشاركين يشعرون بالوحدة خلال استخدامهم للسوشيال ميديا، وهو ما يدل أن هذه المنصات تلعب دورًا كبيرًا في ارتفاع مستوى الوحدة.

ولكن من الضروري معرفة أن هذا أيضًا يعتمد على كيفية تفاعلك مع الإنترنت.

فاستخدام فيسبوك، سناب شات وانستغرام وتطبيقات الوسائط الاجتماعية المشابهة للبقاء على اتصال مع الأصدقاء يمكن أن يُضيف بعض الديناميكية والتواصل إلى حياتك.

ولكن إذا كنت تقضي ساعات كل يوم في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي كبديل عن التواصل الإنساني الحقيقي، فمن المحتمل أن تتفاقم مشاعرك بالوحدة والعَجْز.

وفقًا لدراسة أجريت عام 2017، وجد الباحثون أن المستخدمين المتصلين بالإنترنت بشكل متكرر أي أكثر من 50 زيارة في الأسبوع -تتفاقم لديهم احتمالية العزلة الاجتماعية إلى ثلاثة أضعاف.

وهؤلاء ليسوا فقط مجرد شباب يافع بل بالغون أيضًا عالقون في روتينهم ويشعرون بعدم القدرة على اكتشاف طرق جديدة للعثور على صداقات حقيقية على أرض الواقع أو لا يدركون طرق تعزيز الروابط الإنسانية في حياتهم.

الوحدة حين تغترب الروح

وهنا أتحدث عن حالة فكرية عاطفية روحية وشعور شبه ملازم قد يرافق الإنسان في أغلب مراحل حياته المختلفة بدون ضرورة وجود مسببات جليّة كأن تكون من أعراض اضطراب نفسي مثلاً!

الأمر يتعلق أكثر بإحساس عام بعدم الانتماء للعالم الذي تعيش فيه وعدم القدرة أن تكون أنت كما يتوقعك الجميع، هناك عوامل صحية وعضوية يمكن أن تخلق هذه الحالة.

الأمر لا ينطبق هنا خاصة إذا كان هذا هو المناخ الداخلي الشائع حتى أثناء وجودك وسط أهلك، أحبابك وأصدقائك، وربما حتى في أكثر اللحظات حميمية التي من المُفترض أن تشعر فيها بأنك جزء منصهر مع شخص آخر.

عادة تصاحب هذه الحالة خصال شخصية معينة مثل الحدس والحساسية العالية. التعاطف الشديد والوعي الحسي بطبيعة احتياجات الآخرين، أي أنك تُدرك مسبقًا بشكل غير واعي بما يحتاجونه سواء كان دعم نفسي، إصغاء، تعاطف… فتهرع لتوفير ذلك لهم رغبة منك في عدم إحباطهم وتخييب أملهم بطريقة ما.

وهو أمر جيّد لهم لأنه سيعطيك تلك المقدرة الطبيعية على أن تكون الصديق الوفي الحريص على مراعاة مصالح ومشاعر صديقه، الشريك المخلص، الابن البار…إلخ

وهكذا ستمضي في حياتك تلعب الدور المثالي في كل شيء، ذاك الشخص الهادئ والودود الذي لا يُتوقع منه إثارة أية متاعب بل يُعتمد عليه أن يتحمّل المسؤولية دون تذمّر وأن يكون ناضجًا في كل موقف ويقدّم المثال الأفضل للجميع.

سقف التوقعات لا ينتهي حتى تصل لمرحلة تبدأ فيها روحك بالاختناق والانكماش شيئًا فشيئًا.

هو أمر حزين فعلاً لأنه يحبسك في زنزانة ما يُريده ويحتاجه الآخر وسَيفرض عليك مع الوقت تقمّص شخصية شبه مزيفة تستخدمها كأداة تمكّنك من التواصل مع محيطك وتأدية أدوارك الاجتماعية بشكل جيد بحيث بالكاد يرى أحدهم جوهر حقيقتك ويستَشِف من تكون وراء القناع الذي ترتديه.

سيصبح الأمر أصعب مع الوقت، حتى إدراكك لبعد الزمان والمكان سيتشوّه مدام كل شيء يحيط بك يمتص من طاقتك الشيء الكثير، وهذه هي أقتم درجات الوحدة.

الأكثر تعاطفًا وحساسية هم الأكثر عرضة

في واحدة من روائع مؤلفات عالمة النفس، الفيلسوفة وعالمة الاجتماع السويسرية أليس ميلر؛ ‘دراما الطفل الموهوب’، تشير فيها إلى أن الطفل الأكثر ذكاءً وحساسية والأكثر عاطفيًا من غيره من الأطفال غالبًا ما يتماشى تمامًا مع توقعات والديه ويتأقلم معها بحيث يفعل كل ما يستطيع لتحقيق هذه التوقعات حتى على حساب تجاهل مشاعره واحتياجاته.

عندها يصبح الطفل “المثالي” في أحلام والديه، وفي المقابل يفقد شيئًا ثمينًا للغاية؛ نفسه وذاته. لأنه كمن يُغلق مشاعره وتطلعاته الحقيقية في “زجاجة”، ويُلقيها في البحر.

الطفل الموهوب في هذا النوع من الحالات يتوقف عن النمو العاطفي، لأنه لا يستطيع أن يميز نفسه الحقيقية، فهو يشعر بالفراغ، والعزلة العاطفية، وكأنه “بلا مأوى” فيستمر طيلة حياته بمحاولة إرضاء والديه والآخرين. الموهبة التي تحدّثت عنها ميلر هي الحساسية العالية والشعور بالتعاطف المفرط بالآخرين.

وهي نفس الفكرة التي يُركّز عليها في كتبه ومحاضراته الطبيب الكندي والمختص في قضايا الإدمان؛ غابور ماتي غير أنه يُعزي حالة الانفصال عن الذات إلى نوعية الصدمات النفسية والعاطفية التي قد تحدث في أولى مراحل حياة الإنسان كرضيع في علاقته بأمه.

 الصدمات كما يُعرّفها دائما الدكتور غابور ليست كما يعرفها معظم الناس على أنها أحداث عنيفة تقع في نقطة معيّنة من الزمن في حياة الشخص.

بل يمكن أن تكون عبارة عن حالة يومية مُعاشة حيث يكون الطفل في أولى سنوات عمره غير مرئي تمامًا من طرف والديه، منصهر رغمًا عنه في رؤيتهما وعواطفهما الخاصة، فلا يعود يُميّز بين أحاسيسه التي تخصه وتلك التي تخصهما.

هذه الحالة تؤدي غالبًا إلى ارتفاع احتمالية اللجوء إلى الإدمان بجميع أنواعه عند البلوغ بسبب الشعور بالخواء والوحدة وعدم القدرة على التواصل مع الذات أو مع الآخر. حيث يقول الدكتور ماتي دائمًا بأن:

الصدمة ليس ما يحدث لكَ بل ما يحصل بداخلك.

انطلاقًا من كل ما تمت الإشارة إليه مسبقًا، يتضح أن أصعب درجات الوحدة هي تلك التي يُحس بها الإنسان وهو وسط أسرته، أصدقائه ومعارفه… لأنها تجعله مُغتربًا في وطنه.

إقرأ أيضًا

تّشريح وبـاء الوحـدة

في كتابها The Anatomy of Loneliness تقوم الكاتبة والمُحاضرة العالمية تيل سوان بعمل ‘تشريح’ إن صح التعبير لتركيبة هذه الحالة الإنسانية الوباء، حيث سنجد ثلاث مركبات مختلفة وهي: الانفصال، العار والخـوف.

الانفصال وهي الفكرة التي يكونها الشخص عن ذاته كمكّون منفصل تمامًا عن الآخر وهي حالة من التفتت الداخلي التي تجعل من إدراكنا للعالم الخارجي على أنه عُدْوانِيّ وغير متقبل لكل أجزائنا ومن أجل التأقلم مع هذه العدوانية نكبت أجزاء على حساب أخرى.

 أما بالنسبة للعار فهو أعمق مما يمكننا أن نتصور لأنه يمثل آلِيّة التفتت النفسي الذي يحصل بسبب إدراكنا المشوه عن عدوانية المحيط الخارجي، العار هو ردة فعل بدائية متجذرة في البنيان النفسي لدى البشر، فكلما اختبرنا الإحساس بالعار نقوم بدفع ذواتنا بعيدًا عنا وهكذا نصبح مُنعزلين داخليًا عن أنفسنا وتدريجيًا سوف ننسحب من أي تواصل أصيل مع الآخر.

أخيرًا يأتي مكون الخـوف الذي هو عكس الحب لأنك إذا أحببت شيئًا أخذته كجزء منك وإذا خشيته أبعدته عنك وفصلت نفسك عنه.

وهذا هو العامل الأولي في فشل العلاقات مهما كان نوعها؛ الخوف من الرفض، من الهجران، من الألم أو فقدان الحرية. الحقيقة أن الناس لا يهابون ما لا يعرفونه لأنه لا يمكننا التنبؤ بمستقبل علاقة بل نخاف مما اختبرنه سابقا ولم نجد له حلاً.

على ما يبدو أن هذه المكونات الثلاث هي ما يُعزز ويرسخ شعور الوحدة عند الفرد، فأن تشعر بأحدها أو جميعها لمدة زمنية طويلة سوف يؤدي حتمًا إلى الشعور بالوحدة والعزلة عن العالم والآخرين.

أشد خطورة من السمنة والتدخين

لم يتطرّق هذا المقال بدون أدنى شك إلى تلك الوحدة التي يحتاجها الفرد بين الفينة والأخرى من أجل التفكّر والتأمل، أو ما نعرفه بالخلوة الروحية، إنمّا كان التركيز على هذا الموضوع من زواياه المختلفة التي تطال فئات المجتمع ككل وتكاد تكون وباءًا حقيقيًا لأن ما أثبتته الدراسات والأبحاث إلى حدود الساعة عن تداعياته هو صادم جدًّا.

وكما يُقال بالإنجليزية أن تكون لوحدك لا يعني أن تكون وحيدًا، يمكن أن يكون الانعزال قليلاً اختيار شخصي واعٍ له مزياه الكثيرة.

تُصبح الوحدة وباءًا حين لا يوجد في حياة الأفراد شخص واحد على الأقل يستطيعون الاعتماد عليه، محادثته بدون قيود أو خوف من الأحكام المسبقة حول مشاعرهم وتجاربهم ومشاركة أمور حياتهم معه بحيث يوفّر لهم ذلك نوع من الأمان، يمكن أن يكون صديق، زميل عمل، شريك حياة أو أحد الأقارب كأخ أو أخت..

ولا يهم فعلًا أن يعيش الشخص وسط مجموعة من الناس إن كان يشعر بأنهم غير قادرين على فهمه أو تقديم الدعم له، حتى لو كان ذلك غير صحيح لأي سبب كان، شعوره هذا فقط كفيل بانطوائه على نفسه والاستسلام لدوامة الاكتئاب والعزلة.

في مقال على صحيفة “ديلي ميل” البريطانية حول دراسة أجراها باحثين أمريكيين تضمنت 30 شخصًا يعيشون في سان دييجو بإحدى دور الرعاية، قال رئيس فريق البحث د. ديليب جيستي من جامعة كاليفورنيا:

الوحدة تنافس التدخين والسمنة في تأثيرها على تقصير العمر

يظهر ذلك بشكل مُباشر في كونها تشكّل عاملًا في ارتفاع معدلات هرمون التوتر المُسمى ب”الكورتيزول” المعروف بأنه يؤدّي إلى تورمات غير صحية والتهابات داخل الجسم وزيادة الوزن ورفع نسبة مقاومة الإنسولين إذا ما استمرّ إفرازه لمدة زمنية طويلة.

مما يعني أن الفرد يُصبح أكثر عرضة للإصابة بالسكري، ارتفاع ضغط الدم وحتى السرطان…بدون أدنى مُبالغة فعلاً، هناك ارتباط وثيق بين ما نشعر به لفترات زمنية طويلة وحالتنا الصحيّة العامة.

كان لجائحة كورونا دور مهم في جلب ظواهر اجتماعية خطيرة إلى السطح مثل الوحدة، دانيال فورنيس هو شاب بريطاني في الرابعة والثلاثين من العمر، مُصاب بالنوع الأول من السكري واضطراب ثنائي القطب.

رغم شخصيته المُشرقة وقدراته التواصلية العالية، حسب ما أفادت أخته، لم يستطع هذا الشاب التأقلم مع الحجر الصحي وضرورة عزل نفسه عن العالم تجنبًّا للالتقاط عدوى كوفيد-19 خاصة أنه أكثر عرضة بسبب مرضه المزمن، فقام بإنهاء حياته.

ليس من الضروري أن يُعاني شخص من مرض عضوي أو اضطراب نفسي حتى تتمكن منه الوحدة، كثيرون حول العالم وعبر التاريخ أنهوا حياتهم بسبب ذلك، من بينهم مشاهير مُحاطون بمجموعات كبيرة من الناس والمُعجبين.

إقرأ أيضًا

الحلّ في التغيير أم في التأقلم؟

وباء صامت كالوحدة، يحتاج إعادة نظر في طرق وأنماط عيشنا المُعاصر، فإلى جانب أزمات المناخ، بتنا ندفع ثمن التمدّن والتكنولوجيا من صحتنا وعلاقاتنا أيضًا!

قد يكمن الحل في إجراء تغييرات جذرية على نمط الحياة وديناميكية العلاقات أو ربما إيجاد طريقة للتأقلم الصحي مع الظاهرة بحيث لا تتسلل إلى نقط ضعفنا، كما عبّر عن ذلك المخرج السينمائي الروسي، أندريه تاركوفسكي في فيلم وثائقي عن حياته حين سُئِل عن نصحيته للشباب:

لا أعرف، أودّ أن أقول إنه عليهم تعلّم الوحدة، وأن يحاولوا قدر الإمكان تمضية أكبر وقت مع أنفسهم. أعتقد أنه من أحد أخطاء الشباب، في أيامنا هذه، أنهم يحاولون البقاء مجتمعين حول أحداث مزعجة وأحيانًا عدوانية بعض الشيء. هذه الرغبة في الاجتماع لتجنّب الوحدة في رأيي هي عَرَض مؤسف. كل شخص عليه تعلّم كيفية إمضاء الوقت مع الذات منذ الطفولة، وهذا لا يعني أنه عليه المعاناة من الوحدة، وإنما لا ينبغي أن يشعر بالملل من نفسه، لأن الأشخاص الذين يشعرون بالملل من أنفسهم يبدو لي أنهم في خطر من وجهة نظر احترام الذات

أن تكون لوحدك ليس شيئًا سيئًا أبدًا.

في جميع الظروف يحتاج الإنسان إلى علاقات صحيّة تمنحه الإحساس بالأمان والإنتماء اللذان يُمثلان ثالث احتياج في هرم ماسلو للاحتياجات الإنسانية بعد الاحتياجات الفسيولوجية كالطعام والهواء وحاجة الإنسان للأمن والسلامة الجسدية.

حتى بالنسبة لمن يستمتع بوحدته ولا يجد حاجة لوجود أشخاص كُثر في حياته، سيبقى التواصل الإنساني الحقيقي والصادق حتى إن تحقّق مع شخص واحد فقط هو ما يمكن أن يُنقذ بالفعل أناس كثيرين من أخطار هذا الوباء.

شارك الموضوع
زهرة غماني

مديرة التحرير ومؤسسة مجلة «يارا».