حياة

روحانيّة رمضان في البساطة والحدِّ الأدنى من الاحتياجات

روحانيّة رمضان في البساطة والحدِّ الأدنى من الاحتياجات
شارك الموضوع

رغم أن الكون مُعقّد إلا أن تعقيده لا يتجاوز نظرتنا المركّبة، وعلمنا غير المكتمل بخباياه. مفهومنا عن الأشياء هو ما يغيّر من طبيعتها في أعيننا وكذلك الحياة، هناك ألف سببٍ حولنا تجعل العيش صعبًا والتعايش أصعب، تيّارات تتجاذبنا فنفقد المعاني الأهمّ والأكثر جلبًا للسعادة الحقيقيّة، والبساطة من بينها.

ولكن لسببٍ ما تغيب عنا هذه البساطة كليًّا في رمضان، وتختلط علينا المفاهيم، فتصبح الرؤية ضبابيّة. يأتي رمضان ويذهب دون أن نستطيع ملامسة بعض من روحانيّاته الحقيقيّة، ولا أتحدّث هنا عن طقوس التعبّد لأنها ليست حكرًا على هذه الفترة الزمنيّة من السنة، عكس الطاقة الكونيّة التي تُرافق رمضان حصريًّا ولا تُزامن غيره من الأشهر.

ارتبط شهر الصيام بشكلٍ اعتباطي في مخيّلة الكثيرين بما لذّ وطاب من الأكل والوجبات، التي يكون بعضها مخصّصًا فقط لرمضان، هذا الأمر موجود في كلّ بلدٍ عربي ومدعاة للتفاخر، لأنه يدخل ضمن مكوّنات التراث والهوية، قد يقول قائل إنه لا يرتبط فقط بالأكل وإنما بلمّة الأحباب والأصدقاء والجوّ العام بعد الإفطار، وهذا صحيح إلى حدّ ما، ولكن حين ننظر إلى الجانب الاستهلاكي نجد أنه يمثّل التيمة الغالبة لدرجةٍ كبيرةٍ من المُغالاة.

العلاقة العاطفيّة التي تجمعنا بالأكل

وحتى نقترب أكثر من الصورة علينا أن ندرك طبيعة الاحتياجات النفسيّة التي يُحقّقها التجمّع حول مائدةٍ تعجّ بأطباقٍ تحوي شتى أنواع ومذاقات الأطعمة: حلو، مالح، مُرّ، حار…، فإذا كنّا نعتقد أن هذا الأمر صحّي تمامًا ولا ضير فيه علينا أن نُعيد التفكير مرّتين أو أكثر، قد نستغرب إذا ما علمنا أن أغلب سلوكيّاتنا اليوميّة تُحرّكها عواطفنا اللاواعية بقوّة. اختيارات الأكل التي نقوم بها أهمّ مثال على ذلك.

تطوّرت علاقة الإنسان بطعامه من التغذية للتزوّد بالطاقة فقط إلى علاقةٍ عاطفيةٍ محضة، من المهمّ جدًا أن نُدرك أن مجرّد معرفتنا باقتراب رمضان وعملية الصوم، بمفهوم الامتناع عن الملذّات وكبح الشهوات وضبط النفس عمومًا، من شأنه أن يُثير عاطفة الخوف من حرمانٍ معيّن، وهو الشيء الذي يحصل على مستوى اللاوعي، ولا يمكن بأي طريقةٍ استيعابه بالمنطق.

وكنتيجةٍ لذلك تتفعّل بشكلٍ تلقائي آليةُ السعي لاستعادة التوازن، من خلال توفير الإحساس بالأمان، ويتمظهر ذلك في الاستعدادات التي تسبق رمضان بأيامٍ قليلة، وكأنه سباق ما نحو التسلّح، وتلك التي تتخلّله يوميًّا قبل وجبة الإفطار، حيث يُمضي الفرد أحيانًا مدة زمنيّة أطول نسبيًا من الأيام العادية، في التسوّق والتحضير، والتأكّد من أن كلّ ما يمكن أن يشتهيه سيكون موجودًا أمام عينيه، بمعنى آخر: توفير عنصر الأمان.

ماسلو واحتياجاتنا الإنسانيّة

في هرم أبراهام ماسلو للاحتياجات الإنسانيّة، فإن الحاجة إلى الشعور بالأمان تدخل في قائمة الاحتياجات الفيزيولوجيّة في قاعدة الهرم التي تحكمها الغريزة، وعادة ما تتوّلد إثر الحرمان، لذا أسماها باحتياجات الافتقار أو النقص، ونعمل على إشباعها تجنّبًا لإمكانيّة إثارة مشاعر سلبيةٍ أو عواقب غير مستحبّة، أي الهروب من الشعور بالحرمان.

وفي مقابل هذا نجد على رأس الهرم ما يسمّى باحتياجات النُمُوّ، تلك التي لا تنبع من نقصٍ ما، ولكن من الرغبة في التطوّر كشخصٍ وتحقيق الذات، الذي عرّفه ماسلو كالآتي:

الاستخدام الكامل للمواهب والقدرات والإمكانيّات وما إلى ذلك. يبدو أن أشخاصًا مثل هؤلاء يكمّلون أنفسهم ويبذلون قصارى جهدهم لفعل ما هم قادرين على فعله…إنهم أشخاص طوّروا أو تطوّروا إلى أكمل مقامٍ في استطاعتهم.

إذا أخذنا بعين الاعتبار نظرية ماسلو، بلوغ هذه النوعية من الحياة عند الأفراد لن يتمّ إذا ظلّوا معظم حياتهم يتخبّطون في تلبية احتياجاتهم الأوّليّة في قاعدة الهرم، التي لا تُلبّى قط عندما نكون غافلين عن وجودها أصلاً، ونتحايل على أنفسنا لتلبيتها بطرقٍ ملتويةٍ، مثلاً الانغماس في الأكل والشرب واستهلاك كلّ ما يمكن استهلاكه والالْتِهاء به، من مسلسلات ودراما رمضانيّة، سوشيال ميديا، الجلوس المُطوّل على المقاهي، أحاديث التلفونات المطوّلة، إلخ.

البحث الدائم عن مصادر الإلهاء هو السبب الأساسي في تغيّب عُنصر البساطة في رمضان، التي هي من أهمّ صفات الإنسان الفاضل الذي تخلّى عن التظاهر، لأنه يملك الحكمة والرشد للتصرّف بعقلانيّةٍ إزاء رغباته.

الهدف من رمضان في حدّ ذاته هو التطهير الجسدي والروحي، حتى تتوازن جزئية النفس والعاطفة فتتفعّل من جديد ميزات كالتعاطف، رباطة الجأش والفضيلة من أجل حياةٍ واضحة المعالم والاتجاهات، دون تأثيرات مخادعة.

ماذا لو تبنينا مقاربة تجرّديّة في رمضان؟

البساطة هي فنّ العيش بهدفٍ مع الحدّ الأدنى من الإلهاءات والتعقيدات التي لا داعي لها، ليس زُهدًا وتنسّكًا مبنييّن على الحرمان، بل مكافحة فرط الاستهلاك والتبذير، مع عدم التضحية بمستلزمات الحياة الجيّدة والعيش الطيّب.

تُقدّم فلسفة المينماليزم بدائل مُعقلنة لاستعمال الموارد المتاحة بطريقةٍ تُتيح المساحة الكافية، لاستكشاف المعاني الحقيقيّة والقيم المعنويّة التي يحقّقها كلّ سلوكٍ إنساني، سعيًا وراء الارتقاء الفكري والروحي وتغليبه على الجانب المادّيّ الخالص.

اشتهرت المينماليزم في السنوات العشر الأخيرة، كردِّ فعلٍ على الرأسماليّة الشَرِهَة، وازدياد ارتكاز المجتمعات والثقافة المعاصرة على الاستهلاكيّة الجامحة: امتلاك، جمع وتجميع الأشياء.

المفهوم، بمعزلٍ عن الاعتبارات الأخرى، موجودٌ منذ القِدَم في المعارف الشرقيّة القديمة، وتَبَلْوَر في شكله الحالي كترند اجتماعي وروحاني جرى تطبيقه على مجالات عدّة، مثل الهندسة المعماريّة والديكور الداخلي.

الحقيقة أن نظرية الحدِّ الأدنى يمكن اعتمادها والاستفادة منها كأسلوب حياةٍ شاملٍ، يمكن التَمَذْهَب بِه في أكثر من حَيّز: تحديد أولويّات علاقاتنا، طريقة تنظيم الوقت، قائمة مشترياتنا، عدد الأصدقاء أو الأشخاص السلبييّن في حياتنا…

هذه فلسفة مفادها بكلّ بسـاطة: التجرّد من الأشياء غير الضروريّة في حياتك حتى تتمكّن من التركيز على ما هو ضروري.

وما في قائمة أولوياتي أنا قد لا يكون في قائمة أولويات شخصٍ آخر أيضًا. ما سيقودنا مرّة أخرى إلى هرم الاحتياجات الإنسانيّة، فإذا كانت المائدة المزدحمة بالأكل، الاقتناء المفرط للحاجيّات والمواد الغذائيّة مثلاً، يوفّر لي إحساس الأمان الذي أفتقده أثناء عملية الامتناع عن الأكل والشرب، فمن المهمّ جدًّا أن أدرك أن هذا يتعارض مع الحكمة المنشودة وراء صوم رمضان، وأن هناك خللاً في توازن النظام النفسي العاطفي عندي.

إقرأ أيضًا

وما يفعله الشهر الفضيل ما هو إلا تعرية لجوانب القصور والعَوَز فينا، ليس من المفترض أن يوفّر الأكلُ حاجة الإنسان إلى الأمن، الشعور بالانتماء أو التواصل الإنساني، الوظيفة الأساسيّة للطعام عمومًا، ووجبات الإفطار والسحور في رمضان على وجهٍ خاص، هي التزوّد بالطاقة اللازمة لمواجهة يومٍ آخر من الصيام.

هذا الخلل في عدم الوعي بأنفسنا بالضبط في هذه الفترة من كلّ سنة، يعني أن علينا البحث عن توفير حاجاتنا في مكانها وبطرقها الصحيحة، وليس حول موائد الطعام، أو في المقاهي وأمام شاشات التلفاز والهواتف الذكية.

شارك الموضوع
زهرة غماني

مديرة التحرير ومؤسسة مجلة «يارا».