مجتمعات وأوطان مضطربة سياسيًا ومعرفيًا، مشغولة تكدس الأسلحة لا الكتب، وتبني السجون بدلاً من الجامعات ومراكز البحث العلمي، فما كان لأصحاب العقول والكفاءات مفر سوى الاتجاه نحو أوطان أخرى حيث يلقون التقدير والاهتمام.
وفقا للعديد من الدراسات التي أجرتها جامعة الدول العربية واليونسكو فإن حوالي ثلث هجرة الأدمغة تساهم فيها منطقة الشرق الأوسط والعالم العربي، إلى الدول التي تشجع وتوفر مناخ مناسب ومتكامل لنمو قدراتهم الإبداعية والعلمية كأستراليا وكندا وبعض الدول الأوروبية الأخرى.
فهناك 50٪ من الأطباء و 23٪ من المهندسين و 15٪ من التخصصات الأخرى.
بدأت ظاهرة هجرة العقول العربية في القرن التاسع عشر وازدادت في القرن العشرين، خاصة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، كما ورد أن 54٪ من الطلاب العرب الذين يدرسون في الخارج لا يعودون إلى بلادهم. فالعرب وحدهم يشكلون 34٪ في بريطانيا.
وهناك ثمان دول عربية تتربع على عرش الدول التي لا تقدر هذه الأدمغة النابغة وهي مصر والأردن والعراق وتونس والمغرب والجزائر، ما سبب نفور تلك العقول بعيدًا عن أوطانها!
يتواجد العلماء والنابغين حيث يتواجد المناخ العلمي الملائم
استطاع الغرب بظروفه الداعمة للعلم والعلماء أن يجذب 80% من طلاب الدراسات العليا العرب لمتابعة دراستهم في الخارج ومعظمهم يفضلون استكمال مسيرتهم الدراسية والعلمية هناك.
وهو ما يعادل حوالي 2 مليار دولار خسارة سنوية للعالم العربي. ألسنا أحق بهذه العقول النابغة المتميزة!
الأمر كله يمكن تلخيصه في جملة واحدة وهي “ثقافة التعامل مع العلم والعلماء”.
فنراهم في المجتمعات الغربية يركزون بشكل متزايد على أحدث العلوم والتكنولوجيا، سواء خلال وسائل الإعلام وغيرها.
أو المشاركة في مناقشات نشطة حول كيفية زيادة المعرفة في مجالات مثل الطب و الروبوتات والذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا النانو وهو ما لا نجده في مجتمعاتنا العربية الراكدة إلى حد كبير، وغير القادرة على التوفيق بين الحداثة والتقاليد والتوافق بين الدين والعلم.
فوسائل الإعلام أصبحت مشغولة بعرض المشاحنات والنزاعات الفارغة بين الفنانين والرياضيين وسفهاء المجتمع، غير مباليين بالعلماء والشباب النابغين والمبدعين في شتى المجالات، متناسيين كل متطلباتهم وحقوقهم.
فأصبح من الطبيعي أن يكون حلم كل شاب عربي أن يهاجر لشق طريقه خارج الوطن. والبحث عن عقول أخرى مشابهة ومقدرة لذكائه وتميزه.
الدوافع الحقيقة وراء هجرة الأدمغة العربية إلى الخارج
تعتبر فلسطين وسوريا ومصر والأردن والمغرب ولبنان من أعلى الدول التي تعاني من هجرة الأدمغة، والبحث عن أسباب ودوافع واقعية أمر لابد منه من قبل بعض منظمات المجتمع المدني التي تسعى جاهدة لتقليل هذه الظاهرة والحد منها قدر المستطاع في السنوات القادمة.
البطالة شبح مخيف ينتظر الشباب
لعل أكثر أسباب هجرة الأدمغة العربية والشباب عمومًا هو البحث عن لقمة العيش والوظيفة المناسبة التي تضمن له حياة ومعيشة كريمة، والتي غالبًا لا يجدها الشاب العربي في وطنه فيحدد مساره للبحث عن آماله في الخارج بأي وسيلة كانت.
عند التطرق لأسباب حدوث البطالة الملحوظة بشكل مرعب في الوطن العربي.
قد يلقي البعض اللوم على الحالة السياسية بجانب النزاعات والحروب المنتشرة في المنطقة العربية في السنوات الأخيرة.
كما أن هناك فجوة كبيرة بين الدراسة الأكاديمية المعتمدة على التلقين فقط في الجامعات العربية وبين سوق العمل الذي يحتاج لكفاءات وقدرات عملية.
أفاد تقرير جامعة الدول العربية أن معدل البطالة في دول الشرق الأوسط وصل إلى 26.2%، فتفتقر الدول العربية لمصادر الابتكار الشخصي والمهني، مما يعني أن حوالي ربع خريجي الجامعات يواجهون شبح البطالة المدمر للأحلام والطموحات.
الإضرابات السياسية والاجتماعية
من الطبيعي أن نشاهد نفور كبير من الشباب والأدمغة العربية عن موطنها إذا كانت تتخله المشاحنات والنزاعات السياسية المتعددة، فالإبداع والعلم يحتاج لبيئة هادئة ونفوس وعقول صافية قد نفتقر لوجودها في الوطن العربي بكل أسف.
فعلى سبيل المثال، أدت الاضطرابات السياسية إلى زيادة عدد المهاجرين المصريين من عام 2007 إلى عام 2011، بنسبة 19% إلى ألمانيا، و 22%إلى المملكة المتحدة، و45%إلى إسبانيا، و58%إلى إيطاليا.
من ناحية أخرى، شهد عام 2012 عودة واسعة من المثقفين والعلماء إلى أصولهم، في أعقاب ثورات الربيع العربي، حيث أنهم شعروا بالحاجة إلى التغيير الذي كان يهيمن على المنطقة في ذلك الوقت.
لكن هذا لم يدم طويلاً فاحتضنت الدول الغربية من جديد حوالي 50% من العلماء والأطباء والمهندسين العرب وخريجي الجامعات الآخرين من مختلف التخصصات.
تقدم البحث العلمي والتقني
يحتاج العالم العربي إلى تحسين في النظام التعليمي بالكامل لأن المدارس والجامعات تركز أكثر على التدريس وليس البحث.
بالإضافة إلى نقص التمويل في الجامعات ومراكز البحوث التي تلبي معايير التميز الأكاديمي. وهذا يعني أن الطلاب غالبًا لا يمتلكون معدات غير كافية كما يفتقرون إلى الوصول للبيانات اللازمة، مما يقلل من المخرجات العلمية.
استوعب الغرب أن البحث العلمي والتقني هما الركيزتين الرئيسيتين للتقدم في أي بلد، والسعي وراء الابتكار.
فقد تم تخصيص ما يقرب من 3 أو 4 % من ناتجها المحلي الإجمالي في قطاعات البحث العلمي، وعلى النقيض في الدول العربية تم تخصيص 0.02% فقط من الناتج المحلي الإجمالي للبحث العلمي.
فأعتقد أن هذه المؤشرات والحقائق المخيبة للآمال توضح وضوح الشمس الأسباب والدوافع وراء هجرة الأدمغة العربية لعلها تجد من يقدرها.
المرأة العربية استطاعت أن تلمع في الخارج
شعور بالفخر بانتساب مثل تلك العقول لأوطاننا العربية، بكل تأكيد يخالط هذا الشعور الحسرة، كيف لتلك العقول العبقرية أن تهمل ولا تقدر، نبحث عن التغيير ونترك الثمار الخضراء تنمو في أراضي غير أراضينا ونحن أحق وأولى بها.
وعند التطرق لسرد بعض علماء العرب الذين لمعوا في سماء الغرب، لا يمكننا أن نغض الطرف عن أبرز العلماء المعاصرين وهو الدكتور أحمد زويل وهو عالم مصري هاجر إلى أمريكا لاستكمال دراسته ونال شهادة الدكتوراه في علوم الليزر.
عمل في جامعة كالتك وأصبح أستاذًا لعلم الكيمياء فيها، وحاز على جائزة نوبل في الكيمياء لابتكاراته البارزة في مجال كيمياء الفيمتو، كما نال جوائز عديدة في دول مختلفة آخرى.
إثبات الذات وتحقيق الأحلام في الخارج لم يقتصر فقط على الرجال بل هناك العديد من العالمات والمبدعات استطاعن بكل إصرار رسم طريقهن للنجاح.
قد يرى البعض أن دراسة العلوم بمختلف مجالاتها يناسب أكثر الرجال غير أن هذه الرؤية مغلوطة.
بالرغم من الواقع الصعب والتحديات التي تواجه العلماء في مثل هذه التخصصات، لم تقف هذه العقبات في وجه المرآة العربية فإننا بالفعل نملك نماذج نسائية مشرفة في كافة مجالات العلوم المختلفة.
مها عاشور
من أهمهن الدكتورة “مها عاشور” أستاذة الفيزياء بجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس، لها أكثر من عشرين بحثًا علميًا في مجال الفيزياء.
كما أسهمت في وضع خطة الأبحاث الأساسية في فيزياء الفضاء في إدارة الأمريكيات نساء العلم، وشاركت في وضع خطة أبحاث فيزياء الفضاء في إدارة الطيران والفضاء الأمريكية ناسا.
فحصلت على جائزة نساء العلم ،وبلا شك تعتبر مها عاشور واحدة من أهم علماء العرب المعاصرين.
إقرأ أيضًا
ماجدة أبو راس
الدكتورة “ماجدة أبو راس” هاجرت إلى بريطانيا وحصلت على الدكتوراه في التقنية الحيوية للملوثات البيئية من جامعة سري هناك.
وتعتبر ماجدة أبو راس أول امرأة سعودية متخصصة في المعالجة الحيوية للملوثات البيئية في التربة، ومن الجدير بالذكر أنها صنفت من ضمن أقوى 30 امرأة سعودية لعام 2014.
أسماء بوجيبار
أسماء بوجيبار هذه الشابة والعالمة المغربية من مواليد 1984 والتي نشأت وتلقت تعليمها الأساسي في الدار البيضاء بالمغرب قبل أن تسافر إلى فرنسا لاستكمال دراستها الجامعية.
تعتبر أسماء بوجيبار نموذج آخر للمرأة النابغة والذكية التي استطاعت رسم طريقها جيدًا، غير متناسية الصعوبات والعقبات التي قد تواجهها ولكنها أخذت القرار بكل عزم أن تجتازها حتى وصلت لمبتغاها.
فقد تمكنت من الحصول على منصب في وكالة ناسا الأمريكية بعد اجتياز مسابقة شارك فيها المئات، لتكون أول امرأة عربية إفريقية تحظى بمثل هذا المنصب.
إن المناخ والفرص التي تتاح للمرأة العربية في الغرب قد تكون من أكبر المقومات التي ساعدتها في مسيرة حياتها الدراسية والمهنية لتثبت ذاتها في مجالات متعددة وخاصة ميدان العلوم التي يسيطر عليه الذكور.
فالمرأة العربية بتواجدها في بيئة ديمقراطية عادلة مثقفة ومقدرة لمجهوداتها يوفر عليها الكثير من الصعوبات التي بكل أسف تعاني منها في بلادها العربية.
المرأة إذا اكتسبت الحرية وعاشت في البيئة السليمة لنمو عقلها وإبداعها، بالطبع يمكنها أن تحدث تميز لامع في مجال تخصصها.