الهبوط على الكوكب الأحمر هو حلم إيلون ماسك العظيم أو يجب أن أقول حلم ‘العظيم’ إيلون ماسك!
بصراحة كلاهما خياران متاحان للمناقشة في هذا المقال عن القدرة البشرية المُتَأَصِّلة على الإيمان بتحقيق المستحيل والأمل الكبير بالتغيير نحو الأفضل.
يُحكى أنه في أزمان غابرة حلم إنسان بالتحليق مع النسور، كان ذاك حلم غريب ومستهجن نوعًا ما في تلك الأزمنة.
كان أساتذة التاريخ في طفولتي لا يفوّتون الفرصة لتذكير عقولنا الفتيّة بأن أول إنسان حاول التحليق في تاريخ البشرية كان عربيًا.
ومن كثرة فخري، ظل اسمه عالقًا في ذهني معظم سنوات طفولتي الغرّاء، كانت خيبة أملي قاسية بعض الشيء وأنا أكبر وأكتشف باقي تفاصيل القصة التي لم يكملها أساتذتي قط …
أو لربما أكملوها ولكن عنفوان الصغر رفض التعلّق بها والتعلّق بالأمل عوض ذلك.
‘المقموع’ عباس بن فرناس
من الصعب وغير المنطقي أن نخبر أطفالاً صغار أن عباس بن فرناس هو أول من حلم أو فكّر بالطيران في التاريخ لأن الحلم يمتلكه الجميع وليس له براءة اختراع وليس هناك طريقة سحرية ما لمعرفة من حلم بماذا أولاً؟!
هل كان الأمريكان هم من حلموا بالنزول على سطح القمر أم الروس الذين يُقال في ثنايا نظرية مؤامرة ما أنهم هم من نزلوا على القمر أولاً!
أعتقد أن الفكرة واضحة هنا، إنها واحدة فقط من مئات الكوارث التي تُرتكب في مجال التعليم وكيفية تلقين الحقائق التاريخية، وتلك فكرة أخرى لمقال آخر.
أعود إلى بطل حكايتي الأول، ابن فرناس الأمازيغي الأصل من بلاد المغرب العربي حلّق بالفعل.
حسنًا، كان ذلك لمدة زمنية قصيرة ورغم أن محاولاته أخفقت على مدى سنوات إلا أنه كنت أود أن أعرف أكثر من أساتذتي عنه غير أقصوصة المحاولات الفاشلة تلك.
وددت لو أخبروني كيف كان شغوفًا بالسماء وسكانها من النجوم والأجرام، وكيف أن اهتماماته بالعلوم المختلفة جعلته يبتكر الساعة المائية والنظارة الطبية وقلم الحبر…
وددت لو عرفت أكثر عن حبّه للطبيعة و الشعر، هل كان سيشكّل فارقًا؟!
نعم بكل تأكيد، وأنا امتهن التعليم لسنوات الآن أدرك جيدًا بقلبي وعقلي معًا أن هناك مصابيح صغيرة تُضاء في أذهان الصغار و الشباب اليافع حين يعلمون أن:
من نلقّبهم بـ ‘العظماء’ هم في حقيقة الأمر أشخاص عاديون حلموا يومًا ولم يتوقفوا عن الحلم حين حاولوا تحقيقه عبر مسلسل طويل من الفشل الذريع و خيبات الأمل المتكرّرة.
كان لابد أن أعرف أن فشله في التحليق لم يكن بسبب قلة علمه أو فهمه فهو عالم درس حركة الطيور وأجرى عمليات حسابية عديدة لسنوات قبل الإقدام على تجربته المتفرّدة أمام الملأ.
بل كان السبب هو السخرية التي قوبل بها من جموع الناس التي استُدعيت لمشاهدة تجربته.
ربما كانت صحيحة على نحو غريب ومزعج تلك الفكرة المبتذلة التي نردّدها دائمًا عن كوننا نحن العرب نمتلك قدرًا من الإصرار على تحطيم أحلام بعضنا البعض.
ربما فعلاً نحن كذلك، أحمد زويل يؤكد ذلك أيضًا بقولته المعروفة:
الغرب ليسوا عباقرة ونحن لسنا أغبياء، هم فقط يدعمون الفاشل حتى ينجح ونحن نحارب الناجح حتى يفشل.
حلم التحليق والمحاولات المستميتة لتحقيقه والذهاب إلى أبعد الأماكن هو ملحمة قديمة شارك فيها ولا يهم من كان الأول، ابن فرناس، دافنشي، الأخوَين رايت… وغيرهم.
‘العظيم’ إيلون ماسك
افتتاننا اليوم، خاصة جيل الألفية… بواحد من أولئك الذين يحلمون بجموح وباستمرار وبدون توقف يعكس رغباتنا الدفينة نحن أيضًا.
خاصة تلك التي لم نحققها بالذهاب إلى مكان بعيد سواء كان ذلك بشكل فعلي ملموس أو رمزيًّا أو كرحلة روحية مع الذات فقط، مهما يعني ذلك في ذهن كلّ منا.
إن ‘العظيم’ إيلون ماسك حلم يومًا ما بل يقولون أنه كان واحدًا من أولئك الأطفال الذين تراهم غارقين و مستغرقين فى أحلام اليقظة لدرجة أن أبويه اعتقدا أنه فاقد لحاسة السمع.
عجيب كيف أن أولئك الغريبي الأطوار و المستوحدين القابعين في قوقعتهم الخاصة هم من ينتهي بهم الأمر مع بعض الحظ وشركة ناشئة أن ينقذوا العالم!!
هناك من ينقذ العالم من الوحدة ويخترع بلاسيبو التواصل والانتماء من خلال فيسبوك وهناك من سينقذ العالم من أكبر شرور ارتكبها في حق نفسه من خلال مركبة من المفترض أن تجعلنا نترك كوكب مدمر ونذهب لاستعمار آخر لتدمير بقية المجرة!
بطل حكايتي التاني ‘العظيم’ إيلون ماسك لم يقل ذلك، إنه استنتاج شخصي فقط اعتمد فيه عقلي على دلائل تاريخية صلبة إضافة إلى تجربة بشرية كونية تفيد كلها بأن بني البشر لا يتركون مكان يحطّون فيه رحالهم إلاّ وتركوا فيه بصمة جينية من التدمير العالي الذكاء ـ شديد التعقيد.
ولكن إنه الحلم… حلم التحلـيـق والذهاب بعيدًا، أليس كذلك!
ولا يمكننا أن نعدّل في الأحلام أو نصححّها مهما كانت جامحة، عفوًا أعتقد أني تذكرت للتو قصة تفيد عكس ما قلته للتّو!
قصة سقوط إيكاروس
إنها أسطورة إغريقية لا أكثر، وإن لم تكن تلك الأساطير التي يسميها البعض خرافات، مصدرًا للتعلم فلم يعد هناك أمل عند بني البشر الذين بات يعتقد بعضهم أن كل العلوم والمعارف تخرج من صفحات البحث على جوجل.
غلوريا ستاينم هي ناشطة أمريكية في حركة حقوق المرأة، قالت في تغريدة على حسابها على تويتر مؤخرًا بخصوص فيلم سينمائي قادم حول سيرتها الذاتية:
مشاركة قصصنا هي الطريقة الأقدم والأكثر واقعية للتعلم.
وهذا ما ستجده في أساطير الإغريق وحضارات إنسانية أخرى التي كان الهدف منها تعلّم الحكمة عن طريق السرد القصصي – Storytelling.
تخبرنا الأسطورة The Fall of Icarus أن رجلاً يدعى ديدالوس بنى متاهة بأمر من الملك لاحتجاز وحش المينوتور بها، ولكنَ تكالُب الزمن عليه كما يقال جعله بعد مدة هو وابنه إيكاروس سجين المتاهة التي صممها بيده.
ولأنه يملك من مهارات الاختراع والبناء ما يملك، وبالتأكيد الكثير من الوقت الذي قضاه في سجنه يفكّر في طريقة للخروج، بدت فكرة الطيران هي الحل الوحيد.
فقام هو وابنه إيكاروس بصنع أجنحة من الريش ملتصقة ببعضها بواسطة الشمع.
وعندما حان موعد التحليق بعيدًا عن سجنهما، أخبر ديدالوس ابنه بأنه يجب أن يطير على ارتفاع معتدل، ليس منخفضًا حتى لا تفسد الرطوبة الأجنحة وليس عاليًا حتى لا تذوبها حرارة الشمس.
غير أن الحماسة بالحرية أخذت مأخذها من إيكاروس فنسي ما أوصاه به والده وطار على ارتفاع عال وذابت أجنحته فهوى إلى البحر وانتهت حكايته بالغرق.
معروف عن هذه الأسطورة مدلولات استخرجها الفلاسفة حول الانسياق وراء الحقيقة السطحية بدون إدراك عميق لأبعادها، وبدون حكمة، معرفة مستبقة أو صقل للمهارات.
و قد يحكي الآباء والأجداد هذه الأسطورة للجم الأبناء حين يأخذهم عنفوان الشباب فتكون بمثابة تذكير لأن الكبار يمتلكون الحكمة الأسمى والمعرفة المطلقة ويجب الرضوخ لهم دائمًا.
وهذا ليس ما يعنينا في هذا السياق، و حتمًا لا نرمي بها إلى ضرورة تحجيم أحلام الناس و التقليص من أهميتها، فهذه الأسطر أخطّها أساسًا من أجل الدفاع عن الحلم والإيمان بالمستحيل.
غريتا الصغيرة ذات الرؤية الكبيرة
هناك إنسانة قيل عنها فيما مضى بأنها مجرد طفلة ومكانها في صفوف المدرسة، فهي متحمسة أكثر من اللازم، جاهلة لأسس النظام الاقتصادي العالمي بسبب صغر سنها وربما غرابتها.
لاقت غريتا تونبرغ موجات من الدعم و الانتقادات الشرسة على حد سواء، هذه الأخيرة بينّت كم نحن غير مستعدين لتقبل الاختلاف ونموذج معين من الأشخاص وطريقة تناولهم لقضية معينة.
صغر سن شخص لم يعد يعكس البتّة مدى معرفته أو أهليته لتبنّي قضيّة ما، لأننا نعيش في حقبة ثورة المعلومات.
ومن الضروري جدًا أن نستوعب أن كل جيل يكون أذكى بدرجات من الذي يسبقه، افتراض أن طريقة تناول القضية البيئية بشكل ساذج وعاطفي على أساس أنها طفلة ولا مجال لصغيري السن في مكان يخص الكبار الذين يتخذون القرارات بعقلانية.
هذا لوحده قد نضعه في خانة التمييز القائم على السن Age based discrimination.
صغر سن أو جموح أحدهم لا يمنعه من الحق في الاستمرار بالحلم والعمل على تحقيقه.
ولأننا نتحدث عن الحلم، هي أيضًا تحلم بما قد يبدو مستحيلاً، وحلمها ليس أقل عظمة عن حلم إيلون، بل وقد يشترك معه في الرغبة في خلق فرص مستقبل أفضل للبشرية.
الفرق بين حلم إيلون ماسك العظيم ورؤية غريتا تونبرغ بالرغم من أنني أكره إجراء هذه المقارنة غير المتكافئة بين رائد أعمال و ناشطة بيئية.
هو أن فرصنا للنجاة هي أكثر واقعية وقابلة للتحقيق مع رؤية غريتا تونبرغ وتنفيذها لا يتطلب تريليونات الدولارات بل عكس ذلك تمامًا، يدعو إلى المحافظة و توفير الموارد التي نمتلكها بالفعل و لكننا للأسف أسأنا استخدامها واستغلالها بأبشع الطرق.
إقرأ أيضًا
فلنحلّق عاليًا هنا الآن قبل أن نذهب بعيدًا
وأخيرًا، من الرائع أن نحلم بالهبوط على المريخ واستكشاف سبل الحياة هناك، كما أنه من الجميل جدًا أن نعرف أن هناك كوكب آخر لم نفكر فيه من قبل ويحمل هو أيضًا أسرارًا و ألغاز يجب أن نحلّها.
كوكب كالزُهرة لطالما كان أمام مرأى أعيننا، فلماذا لم تعطه ناسا الأهمية والاهتمام الذي يستحق، هذا ما ظل يتكرّر على لسان علماء كثر حين تمّ الإعلان قبل أيام عن اكتشاف غاز الفوسفين في الغطاء الجوي للكوكب والذي يعني احتمال وجود حياة على سطحه.
إن الاكتشافات العلمية هي أشد ما تتوق له البشرية الآن، كونها تفتح أبواب واسعة من الأمل في المستقبل، فلولا العلم، لا أدري ماذا كنا نحن فاعلون في زمن وبائي كهذا!
كون ناسا و حلم إيلون ماسك العظيم أغفل كوكب الزُهرة ربما يعني أننا لطالما أغفلنا أشياء أهم كانت على مرمى قريب مننا.
إنها أمنا الأرض التي تتوق لانتباهنا بشدة، ما أجمل الإكتشافات العلمية و تريليونات الدولارات التي تخصص لاكتشاف الفضاء سنويًا.
ولكن ألا يجدر أن تقّض مضجعنا أمور تأتي في المرتبة الأولى قبل كل شيء؟
ألا يجب أن نلتفت إلى أطفال اليمن الجوعى، حرائق الغابات في كاليفورنيا، استراليا وسوريا، ارتفاع نسب التحرش والاغتصاب والعنف الجنسي الموجه نحو المرأة، حوادث اغتصاب الأطفال الصغار المنتشرة في كل بلد عربي.
معاناة الأمهات اليومية المستمرة في التوفيق بين عشرات المهام التي تحتاج انتبهاهن وبين تقديم الرعاية الجيّدة لفلذات أكبادهن في غياب دعم الشريك أو المجتمع ككل.
فشل العلاقات و تفككها يومًا بعد يوم لأنها تُبنى على أسس غير صحيحة وتوقعات زائفة ولأن من يدخلها يحمل في قلبه جروح لم تندمل بعد…
إن الثورة الصناعية الرابعة لم تنصف احتياجاتنا الحقيقية كبشر.
وبتنا أكثر عطشًا لما هو حقيقي، مستدام، آمن، متصل بذكاء الفؤاد ورقي الروح، يحقق أحلامنا القديمة الأزل بالإيمان بالمستحيل والتحليق عاليًا فوق مآسينا التي صنعناها بأيدينا.