قضايا المرأة

في مجتمع احترم المرأة…كانت إيزيس الأم والأنثى المقدّسة و حامية عرش مصر

في مجتمع احترم المرأة…كانت إيزيس الأم والأنثى المقدّسة و حامية عرش مصر
شارك الموضوع

الأم هبة الإله ضاعف لها العطاء فقد أعطتك كل حنانها، ضاعف لها الغذاء فقد قامت بتغذيتك من عصارة جسدها، احملها في شيخوختها فقد حملتك في طفولتك، اذكرها دائمًا في صلاتك، وبذلك ترضي الإله فرضاؤه يأتي من رضائها عنك.

بهذه الكلمات المنقوشة في المعابد وداخل القلوب المصرية التي لا يزال صداها يتردد في آذاننا منذ آلاف السنين وحتى اليوم عندما نسمع عن حضارة مصر القديمة أُعيد إحياء هذا الاحتفال بالأمومة والأنوثة.

خلال الحدث الذي أبهر العالم الذي أقامته مصر بمناسبة افتتاح المتحف القومي للحضارة المصرية بالفسطاط شرقي القاهرة مطلع شهر نيسان الحالي.

إيزيس في أنشودة أبهرت العالم

حيث تم نقل المومياوات الملكية والتي بلغ عددها 22 مومياء من بينها أربع ملكات إلى مرقدهم الأخير خلال حفل مهيب يليق فعلاً بعظمة ملوك مصر وحضارتهم.

أكثر ما أثار الانتباه وشغل مواقع التواصل بخصوص هذه الاحتفالية هو ما قدمته السوبرانو ” أميرة سليم” وهي تراتيل أنشودة ” مهابة إيزيس” التي جعلت الجميع يقف محبة واحترامًا للمرأة المصرية.

ولهذه الأنشودة الجميلة التي أُخذت من “كتاب الموتى” من خلال التقديم الجميل والأداء المتميز إضافةً للسبب الأهم وهو الكلمات الجليلة الشامخة التي تصف بها إيزيس وتُظهر مكانتها.

فكانت إيزيس كأنها كل امرأة مصرية منذ آلاف السنين وحتى اليوم.

وكأن هذه الصرخة وهذه التراتيل جاءت لتوقظ الحس الحضاري والإنساني عند المصريين ولترجع لأذهانهم من هي المرأة اليوم.

لعلها توقف ما تتعرض له النساء من عنف وتحرش خاصة في الآونة الأخيرة مع انتشار حملات التوعية لفضح المتحرش والتوعية الاجتماعية للوقوف مع الضحية لا ضدها!

فمن هي إيزيس التي أظهرت مكانة المرأة عند المصري القديم من خلال ترنيمة تقشعر لعظمتها الأبدان وتصل إلى بيوتنا وقلوبنا من خلال صوت أميرة سليم؟ وما هي مكانة المرأة آنذاك وكيف نظر المصري للأمومة بحياته؟

وماذا تعني الميثولوجيا القديمة وماهي انعكاساتها ومعانيها؟

فبعد أن شعرنا بهيبة أنشودة إيزيس وقوتها ووقعها، تبادرت إلى أذهان الكثيرين منا كل هذه الأسئلة التي سنحاول الإجابة عنها بوضوح في هذا المقال.

الميثولوجيا في العالم القديم

ظهر في العالم خلال العصور القديمة عدد كبير من الميثولوجيا والأساطير والمعتقدات والطقوس.

فمن رحم البيئة والمعاناة والجمال ظهرت كل هذه الاختلافات والتنوعات الفكرية التي تعبر عن حياة كل مجتمع وتعطينا انطباعًا عن أفكار الإنسان آنذاك، فالإنسان في البيئة الزراعية أقام أعيادًا للربيع و للخصب كالأعياد في بلاد الرافدين وسورية.

أما الإنسان في بيئة عسكرية كرّم الحرب وكان تصوراته للعالم الآخر مشابهة للعالم الذي يعيشه كالميثولوجيا الإسكندنافية التي كانت تتصور العالم الآخر عبارة عن حرب وقتال و استراحة للمحاربين بآخر اليوم.

لكن الأمر المشترك بين أغلب الحضارات القديمة هو تقديسهم لدور الأنثى، وتعدد أدوار الإلهة الأنثى وإعطائها أدوار قد لا يقوى الإله الذكر على فعلها.

وهذه الأساطير والمعتقدات الدينية هي انعكاس لنظرة الإنسان للأنثى في حياته وفهمه لأهميتها ودورها في الخلق والخصب والولادة، خاصة مع بداية اكتشاف الزراعة في الألف العاشر قبل الميلاد.

فقد اكتشفت الزراعة من خلال الأنثى، ولعلها أقدم ثورة عرفها الإنسان، حققت له استقرار حياتي كبير فتوقف عن الترحال بحثًا عن الطعام فحقق له ذلك الاستقرار الغذائي، وساهم بقيام المجتمعات والتجمعات.

ومع مرور الوقت أُقيمت الحضارات نتيجة هذه الثورة الهامة التي ندين لها، من هنا ظهر تقديس دور المرأة في الخصب والزرع، ولعلنا إذا أردنا الحديث عن دور المرأة تبادرت لأذهاننا واحدة من أقدم الحضارات وأهمها وأجملها وهي حضارة مصر القديمة.

يخبرنا المؤرخ اليوناني هيرودوت الذي زار الكثير من البلدان ودرس الشعوب وعاداتها وتقاليدها في القرن الخامس قبل الميلاد أنه لم يرَ شعبًا أكثر تدينًا من المصريين.

ومما قيل نعلم أنَّ الدين كان هو الموجه والمحرك الأساسي للحياة بكافة جوانبها وتفاصيلها، وكذلك كانت الميثولوجيا المصرية انعكاسًا لكل أفكار الإنسان المصري آنذاك.

فالميثولوجيا الدينية تعد بحق مرجعنا الأساسي لفهم الحضارة المصرية العظيمة لأنها تعبر عن اعتقادات الإنسان وتوجهاته ومخاوفه.

والجزء الأكبر والأجمل في هذه الميثولوجيا تحتله الربات اللواتي أخذن أدوارًا عدة وتم تمثيلهن على المعابد والمقابر بأشكال مختلفة تتناسب مع دورهن وقوتهن في حياة المصري.

الربات المصريات ومكانة إيزيس

تعد الإلهة “نيت” من أهم عناصر الميثولوجيا المصرية التي صورها المصري القديم على أنها ربة خالقة.

وهي تمتلك القدرة على الخلق والإنجاب بمفردها دون شريك ذكر ليُظهر مدى إيمانه بقوة المرأة وقدرتها فهي حاملة لصفات الذكورة والتأنيث بداخلها لأنها الخالقة.

إلى الإلهة “حتحور” إلهة الخصوبة التي تحمي النساء الحوامل، وهي المربية والأم والحامية، لذلك نجد كثرة تصوير مشاهد الرضاعة في المعابد والمقابر وتقديسهم لهذا الفعل.

وقد كانت هذه التصاوير مكانًا للفخر كأحد أعظم الملوك المصريين ” تحوتمس الثالث” الذي صور رضاعته من ثديي الإلهة كأنها هي من أعطته القوة والحكمة، إلى الإلهة “سخمت” التي تضمنت كل معاني القوة وهذا هو معنى اسمها ” القوية” وتُمثل بأنثى تحمل رأس أنثى الأسد.

فكانت سيدة التمرّد والحرب والقوة، وهي التي تساعد الملك للفوز في المعارك الصعبة، ولم تكن “سخمت” الوحيدة التي تمثلت بالقوة، فقد كانت الميثولوجيا المصرية غارقة بحب وتقديس الأنثى وإعطائها أقوى وأصعب الأدوار لحماية الكون والإنسان.

ولعلّ أجمل وأكثر الأدوار تأثيرًا في الإنسان المصري منذ القدم حتى اليوم الإلهة ” إيزيس” هذه الأهمية التي شعر بها كل من سمع الترانيم في الاحتفال الملكي الخاص بالمومياوات ” مهابة إيزيس”.

ولا عجب أنه قد اختيرت هذه الترانيم الخاصة بهذه الإلهة بهذا الاحتفال الملكي المهيب كوّن “إيزيس” حامية الملكية هذه الرمزية الجميلة التي تشعرك بحمايتها لملكية مصر منذ القدم حتى الآن.

فالباحث والقارئ المهتم بالأساطير المصرية يرى مدى تشعب “إيزيس” ودورها الهام  في حماية ملكية مصر من خلال واحدة من أهم الأساطير المصرية القديمة وهي أسطورة “أوزير وإيزيس و ابنهما حورس” ضد الإله “ست”.

فقد استطاعت هذه الإلهة لم شتات الملكية المصرية بعد موت زوجها فقامت بحماية ابنها وربته ولمت أشلاء زوجها القتيل وحاربت الشرير ست.

وقامت بتنصيب حورس ملكًا للحياة الدنيا وتنصيب زوجها كملك للعالم السفلي بعد رحلتها الشاقة الطويلة في الحرب ولم الشتات فكانت الأم الحنون المربية والزوجة الوفية المقاتلة والمفكرة والتي حمت تاج مصر من الأعداء ومن الشر.

وأعادت التوازن لمصر وأرضها وشعبها، كانت نموذج للأم الحنونة والزوجة المخلصة والقوية التي اقتدت بها كل نساء مصر.

إيزيس هذه الإلهة الجميلة والتي يعني اسمها العرش كانت تُصوّر في الرسوم على هيئة أنثى تمد ذراعيها لتحتضن زوجها “أوزير” أو كأم ترضع ابنها “حورس”، وكأنها بهاذين الجناحين رأى المصري القديم القوة والحب والإخلاص والقدرة على تجاوز الصعاب، ولدورها الهام بحماية أسرتها.

إيزيس كانت تعكس نظرة الإنسان للأنثى وهذه التمثيلات هي ما شكّل اللاوعي الجمعي للمجتمع المصري تجاه المرأة آنذاك.

مقال آخر قد يُعجبك

مجتمع قديم احترم المرأة… وآخر تعيش فيه عصر الظلمات

يقول الحكيم آني: “دعاء الأبناء لا يصل إلى آذان السماء إلا إذا خرج من فم الأمهات”.

بهذه الكلمات وأكثر عبّر المصري القديم عن أهمية الأمومة بحياته.

ويخبرنا المؤرخ “مانيتون” أنه قد وصلت 18 امرأة مصرية للحكم وكانت المرأة تُصوّر بنفس حجم زوجها وهذا له دلالة اجتماعية كبيرة، كما كانت المرأة تتساوى بالميراث مع الرجل، وغالبًا ما انتسب الأولاد لأمهاتهم.

وقد تم الاهتمام براحة المرأة ورعايتها أيضًا فقد شيّد معبد أشبه بالمشفى لرعاية النساء الحوامل بكل النواحي من الولادة والعناية بهن لتسهيل الولادة ومساعدتهن نفسيًا وماديًا.

ولا عجب أن نذكر بأن المرأة المصرية قد ساعدتها هذه المكانة الهامة في الاهتمام بذاتها أكثر، فأقدم مواد التجميل والحلي والزينة والعطور والزيوت والاهتمام بالملابس وتنوّع الأزياء واستخدام الشعر المستعار” الباروكة” وُجدت بمصر القديمة.

مع كل ما تحدثنا به عن حضارة مصر وعراقتها وتقديس المجتمع المصري القديم للأنثى والأمومة وإعطائها أدوار هامة في كل النواحي السياسية والاجتماعية والدينية.

يؤسفنا توالي الأحداث ووقائع مشينة من تعنيف أسري وتحرش واغتصاب القاصرات، وهذا الأمر لا يخص مصر فقط فالمرأة تعاني وتناضل في كل أنحاء العالم لأخذ حقوقها ومعاملتها كإنسان فقط واعتبار الكفاءة هي السبب الوحيد للتمييز.

وكأننا بعد آلاف السنين عدنا إلى البدائية العمياء وكأن ما يُشاع عن التطوّر اليوم ما هو إلا تطوّر رقمي وهمي لم يمس أخلاق البشر وتعاملهم.

أما التطوّر الفكري والأخلاقي بحاجة اليوم للاعتناء به كما يتم الاعتناء بأي شيء آخر.

فقد أصبح يُشاع من باب السخرية أنّ بعض المدن والأماكن أصبحت حكرًا على الرجال لكثرة حوادث التحرش والاغتصاب التي تقع فيها، ومع ازدياد استخدام وسائل التواصل الاجتماعي وازدياد التوعية مع بداية الثورة المصرية وما حصل من أحداث تحرش وعنف جنسي مؤلمة جدًا.

وهذه الأحداث في ازدياد دائم، لكن أعلنت الكثير من النساء موقفهن للعلن وهو فضح المتحرش ووظهر ذلك بقوة في حادثة “متحرش المعادي” الأخيرة التي أثارت غضب عارم في مصر بعد انتشار فيديو يوثق تحرش رجل بطفلة.

إن من يعرف جيّدًا مصر القديمة سوف يكون مدركًا مكانة المرأة فيها.

وما يحصل حاليًا من تقهقر شنيع في أوضاع النساء في مصر و باقي البلدان العربية ما هو إلا تذكير لنا جميعًا بأنه قد حان الوقت لنُوقف ما يحصل لأنه لا يمثّل حقيقتنا.

لا يمثّل عظمة موكب المومياوات ولا صوت أميرة سليم المهيب وقطعًا لا يعكس شعبًا كان أجدادهم يرون قدسية معينة في الأنثى المرأة، الأم والإلهة إيزيس.

المراجع
الديانة المصرية القديمة، تأليف: ياروسلاف تشيرني، وترجمة الدكتور أحمد قدري.
آلهة المصريين، تأليف: والاس بدج، وترجمة: محمد حسين يونس.
شارك الموضوع
هلا أحمد

مواطنة سورية أعيش بتركيا من مواليد 1993 بدولة الإمارات. أحمل ماجستير في التاريخ القديم ومهتمة بشؤون المرأة، عملت في التدريس وكاتبة محتوى.