إن معظم الدول العربية مجتمعات تعيش على الأمل، ذلك الأمل المبني على الأجيال القادمة، الأجيال التي تتشكّل الآن في مهدها وبين جدران بيوتها، أطفالنا هم الحاضر والمستقبل، وعلينا كمجتمع أن نُهيّئ لهم السبيل لينهضوا بنا من براثن الماضي.
إن أهم المراحل التي يمر بها الإنسان هي مرحلة الطفولة، لأنها مرحلة مصيرية في تشكيل شخصيته، كيانه وتحديد طبيعة سلوكه في مراحل لاحقة من حياته.
في حين أن منظمات حقوق الإنسان تركز جهودها لحماية الطفولة وتدعم اتفاقيات دولية لتحقيق هذا الهدف، فتدعو إلى ضرورة توفير الرعاية الكاملة للطفل وحقه في النمو الصحي والنفسي السليم، نرى اليوم في 2020 كثرة حوادث وأعداد هائلة من القضايا المتعلقة بالتحرش الجنسي واغتصاب الأطفال تطفو على السطح في عدد من الدول العربية.

مسرح جريمة واحد في أماكن متفرقة والضحية طفل!
نلاحظ مؤخرًا ارتفاع معدلات اغتصاب الأطفال في العالم العربي، جرائم ترتكب بحق البراءة، في العام الماضي حصل المغرب على ترتيب سيئ حول الاعتداءات الجنسية على الأطفال، إذ احتل الرتبة 34 ضمن 60 دولة عبر العالم، وكذلك تم الكشف عن أرقام ومعطيات صادمة عن الاعتداءات الجنسية التي يتعرض لها الأطفال في الجزائر، حيث يتعرض أكثر من 9 آلاف طفل لاعتداء جنسي سنويًا في الجزائر.
على الرغم من تركيز جهود منظمات حقوق الإنسان لتُعلي من شأن الطفل ووضع اتفاقيات دولية لحمايته، أهمها اتفاقية حقوق الطفل 1989، والتي تدعو إلى ضرورة توفير الرعاية الكاملة للطفل وحقه في النمو الصحي السليم، وكذلك اتفاقية منظمة العمل الدولية 182 التي دعت إلى تجريم والقضاء على عمالة الأطفال وجميع أشكال الاستغلال لهم.
نرى العديد من القضايا المتعلقة بالتحرش الجنسي واغتصاب الأطفال تطفو على السطح في مجتمعات الوطن العربي، حيث تنقلك أخبارالإعلام الرقمي إلى الدنيا المُظلمة: مقطع فيديو لرجل يعتدي جنسيًا على طفل في النهار الجلي داخل سيارته في مصر حيث فضحته كاميرا مراقبة، بالانتقال إلى محاولة ثلاثة شباب لاغتصاب طفل سوري في لبنان ليتم الكشف عن جريمة اعتداء مستمرة منذ أعوام!
وفي الرابع من أكتوبر 2020 اهتز الشارع الجزائري، على وقع جريمة بشعة، راحت ضحيتها شابة في ربيعها التاسع عشر، تدعى “شيماء”، عُثر على جثتها وهي متفحمة بمحطة وقود مهجورة، وقد تبين أن الجاني قام باغتصابها للمرة الثانية قبل حرقها، وهي الجريمة التي أثارت جدلاً كبيرًا ورفع مطالب بتطبيق القصاص!
بين التبليغ والتستر… إحصائيات لا تعكس الواقع!
يتعرض الأطفال إناثًا أو ذكورًا على السواء إلى كافة أشكال الاستغلال الجنسي، فبالنسبة للإناث يكون بسبب وضعهم المهمش نسبيًا داخل المجتمعات، أما بالنسبة للذكور فإن الأمر يكون وسيلة للترويع خاصة في ظل النزاعات العسكرية، كما أن البعد الثقافي والمجتمعي الذي ينشأ عليه الطفل ويرثه يمنعه من التحدث عما أصابه، خصوصًا تنشئة الأطفال الذكورعلى أنهم لا يحتاجون لحماية، فتعرضهم لسلوك كهذا ينقص من ذواتهم فيختارون الصمت الذي يُضعف قدرتهم على النجاة.
ينتشر في ربوع الوطن العربي النظام الأبوي الذي يتيح للذكر دائمًا فرض سيطرته على الآخرين وأخذ القرار عنهم ـ الهيمنة الذكورية – فأغلب مجتمعات الدول العربية تقوم على معايير جندرية تقليدية تدعم تفوق الذكر دائمًا، وفي ظل غياب التربية الجنسية ووجود إشكالية تخلف المجتمعات التي تُعاني من رهبة الفضيحة في كل الحالات، وانتهاج ممارسات ثقافية خاطئة، حيث أنك في البلدان العربية تصطدم بمنظومة اجتماعية تقوم على التناقض، هذه العوامل تدفع لازدياد العنف نحو الأطفال وجعلهم فريسة جاهزة للاغتصاب والتفريغ للكبت خاصة الفتيات.
نحن أمام العديد من إحصائيات الاعتداءات على الأطفال، وعلى الرغم من ذلك، فإننا لن نجد إحصائية أو دراسة حقيقية تغطي جميع الحالات التي وقعت من اغتصاب وتحرش لأن العديد من الحوادث التي تحصل للأطفال لا يتم التبليغ عنها ويتم تكميمها بسبب خوف الأسرة من وصمة العار، وتبعًا لثقافة العيب التي تنتهجها المجتمعات الشرقية، والحقيقة أن العار كله هو ما يحدث من تكتّم وتستر على مرتكبي الجرائم الجنسية بحق الأطفال!
اغتصاب الأطفال خلف الأبواب المغلقة
هناك العديد من العوامل و والأسباب التي تزيد من احتمال تعرض الأطفال إلى الاعتداء الجنسي، فالأطفال الذين نشأوا دون عائلات في دور الأيتام أكثر عرضة لمثل هذه الاعتداءات بسبب عدم توفر الحماية والدعم من مجتمعاتهم، وكذلك الأطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة والإعاقة الجسدية والذهنية الذين يكونون غير مُدركين تمامًا لما يتعرضون له.
وهذا لا ينفي مُطلقًا أن الأطفال الذين ينشؤون في رعاية أسرهم غير معرضين لخطر الاستغلال، فقد يكونون من المهمشين من قبل أسرهم والمعرضين لضغوطات أو إهمال عاطفي أو نفسي يجعل منهم ضحيّة سهل الوصول إليها.
يتعرض الأطفال من هذه الفئات للاعتداءات الجنسية من قبل الغرباء والأقرباء، فقد يكون شخصًا غريبًا بالنسبة للطفل، وقد يكون من الأشخاص المعروفين أو المقربين للطفل الضحية، حيث يتم التعامل مع الموضوع كأنه جزء من طيش الشباب وإثبات ‘الفحولة’ ويتم التغاضي عنه في معظم الحالات.
وهنا لا ننكر دور العائلة والمجتمع في تفشي هذه الظاهرة، بسبب مساهمتهم لثقافة الهيمنة الذكورية وثقافة العيب والكبت، حيث أن أغلب العائلات لا تُناقش مع أبنائها أمور الثقافة الجنسية، وتتجاهل الأمراض النفسية لدى أبنائها حيث تتركهم على سجيتهم ولا يتم الانتباه لخطورتهم على سلامة المحيطين إلا بعد وقوع الجريمة!
وتشير الدراسات أن 9 من بين 10 من الفتيات المراهقات (من 28 بلدًا) اللاتي أبلغن عن إجبارهن على الجِماع القسريّ أنه وقع على يد شخصٍ قريب أو معروفٍ لهُنّ.
هناك بعض الدول العربية التي كشفت عن بعض الإحصائيات الخاصة بالتحرش الجنسي بالطفل داخل إطار العائلة مع العلم أن ما يتم الإبلاغ عنه للسلطات المختصة لا يتجاوز نسبة ضئيلة مقارنة بالحالات الحقيقية نتيجة لحالة السرية والتكتم الذي يحاط بهذا النوع من الاعتداءات.
فما زالت نسبة الاعتداءات الجنسية على الطفل غير محصورة بإحصاء حقيقي وشامل، وإن الرقم المعلن عنه يخص الحالات المعلن والمصرح بها فقط، ولا تشمل حالات الاعتداءات التي يتستر عليها أهالي الأطفال الضحايا!

الجريمة النكراء لا تحتاج لمبررات!
إن الاعتداء على الطفل بأي شكل كان بات مشكلة تُثير القلق والخوف على مستوى العالم، وبالتالي إن أول خطوات حل المشكلة هي التعرف عليها وعلى الظروف المصاحبة لها، لذلك وجب تسليط الضوء على الظروف التي تعتبر نقطة الانطلاق الأولى لعلاج منتظم خاصة بالنسبة للأطفال الأكثر قابلية للتعرض للاستغلال والعنف الجنسي.
إن مجتمعات الدول العربية تعيش في عقودها الأخيرة حالة تشرذم ونزاعات أثرت على مستوى المعيشة ونشرت حالة من عدم الاستقرار والأمان، والفوضى وبالنظر لسوريا واليمن كمثال وما حدث فيهما من نزاعات في السنوات الأخيرة أدى لتفشي ظاهرة اغتصاب الأطفال وانشغال السلطات بالسيطرة دفعهم بعيدًا عن إعطاء الأولوية لمثل هذه الأمور.
وهنا لا يجب إغفال الصلة بين الفقر وعمالة الأطفال وتعرضهم للاعتداءات، حيث يضطر الطفل الصغير لمواجه الفقر في أزقة الشوارع التي تجعل منه فريسة سهلة وعرضة لتكرار الاعتداءات،
وتباعًا لا نهمل محفزًا رئيسيًا في تفاقم هذه الظاهرة وهو تفشي البطالة التي تستحوذ على قدرات الشباب وهذا يساهم في توجيههم لمَلْئ فراغهم بالإدمان وخاصة تناول الأقراص المهلوسة التي تُذهب عن المرء جادة صوابه، مما يشكل سببًا مباشرًا في تفشي اضطرابات وأمراض نفسية لدى بعض الأشخاص، ما يؤدي إلى تفاقم النزعة العدوانية لديهم وبالتالي تفريغها بأي شيء يقع تحت ناظرهم!
لا ننكر دور العائلة والمجتمع في المساهمة المباشرة وغير المباشرة بهذه الظاهرة، عن طريق تبنيهم اللاواعي لثقافة الهيمنة الذكورية وثقافة العيب والكبت، حيث أن أغلب العائلات لا تُناقش مع أبنائها أمور الثقافة الجنسية، والبعض الآخر يتجاهل احتمالية وجود الأمراض النفسية لدى أبنائها حيث تتركهم على سجيتهم ولا يتم الانتباه لخطورتهم على سلامة المحيطين بهم.
غياب الأنظمة والتشريعات القانونية في حالات الصراع والحرب، ففي الظروف المماثلة تنشغل السلطات بطرق الخروج من الأزمة التي تمر بها، دون الالتفات لقضايا أخرى ناجمة عنها.
العقوبات المخففة، ضعف الخدمات الداعمة للضحايا وآليات الإخبار والشكوى، كل هذه عوامل تزيد من انتشار ظاهر اغتصاب الأطفال في المجتمعات العربية ولكن لا يمكننا التغاضي عن حالات الاغتصاب تحت أي ظرف (سياسي- اقتصادي- اجتماعي)!
الاعتداءات الجنسية على الأطفال تهدّد صحتهم الجسدية والنفسية
إن الضرر الواقع على الأطفال من خلال تجارب العنف الجنسي جسيم ومتعدد الأشكال، و نتائجه قد تكون مدمرة وطويلة المدى، بل قد تمتد لتؤثر على طريقة تفكيره وتؤثر بقوة على ذاكرته حيث يظل يتصور الحادث الذي تعرض له مما يسبب له توتر شديد وشعور دائم بعدم الأمان وفقدان الثقة في الجميع، والإنطواء إذ يتنامى لديه شعور بأن لا أحد يحبه ويقدّره، فيجد صعوبة مستمرة في تكوين العلاقات مع الأصدقاء، وضعف القدرات العامة والتركيز، ومشاكل بالتواصل، واتباع سياسة التعميم كاقتناعه بفكرة أن جميع الأشخاص قد يسببون له الأذى.
اغتصاب الأطفال بمثابة كابوس للذين تعرضوا له، فهو يخلف آثارً نفسية كارثية دائمة في نفسية الطفل، الذي يُصبح ضعيفًا نفسيًّا وعاطفيًا مما يجعله أكثرعرضة للمزيد من الاستغلال، والإصابة باضطراب ما بعد الصدمة والعديد من احتمالاث ظهور اضطرابات الأخرى مثل فقدان الشهية للطعام أوالشراهة وكذلك الشكوى الدائمة من آلام دون وجود أسباب عضوية والتبول اللإرادي. ناهيك من الأضرار الجسدية والصحية مثل الكدمات والتقرحات وتأثر مناعته، وقد تتسبب له بأمراض منقولة جنسيًا.
إن تعرض الطفل لهذه الجريمة لا يقتصر على صحته الجسدية والنفسية فقط، فمن المرجح أن يتحول الضحية عبر الزمن إلى مجرم، يتبنى تصرفات عدوانية انتقامية بسبب ما عانى منه.
وللأسف إن احتمالات شفاء الطفل من آثار الاعتداء الجنسي قد تكون ضئيلة، إلا إذا وجد بيئة داعمة ومساندة مباشرة من عائلته، ومتابعة مع مُعالج نفسي متخصص.
إقرأ أيضًا
ضرورة لمس تغيير على أرض الواقع
إن كل مشكلة يجب النبش عن حل لها حتى لو كان بتغيير قانون ووعي مجتمعات بأكملها، لأن ثقافة المجتمعات هي التي تصنع الأشخاص، يجب نبذ التقاليد والعادات التي تساهم في نشر هذه الجريمة وأولها طغيان الهيمنة الذكورية التي تمنح بعض الذكور بطاقة –خطأ مغفور- أو زلة وتحدث! فضلاً عن التوعية التي تقع على عاتق كل من المؤسسات التربوية والأسرة، حيث يجب أن تولي المؤسسات التعليمية لمهمة نشر الوعي من أجل تغيير العقليات ومواجهة الثقافة الذكورية السائدة وكذلك لا يقل أهمية دور الوالدين في هذا الأمر حيث عليهم تقوية جسور العلاقات مع الأبناء وتثقيفهم جنسيًا وإعطاء معلومات صحيحة تنمي وعي وإدراك الطفل حول ما يجري له من قبل المجرمين الذين تسوّل لهم أنفسهم بالاعتداء على الأطفال.
سوف أستعين هنا بالنموذج الذي وضعه صندوق الأمم المتحدة للطفولة (UNICEF) للعناصر الثمان المتصلة ببعضها التي يجب أخذها بالاعتبار من أجل خلق بيئة تكفل الحماية المستدامة للأطفال والمحافظة عليها وتتضمن: نظرة المجتمع، الموروثات، العادات و التقاليد، التزام الحكومة نحو كفل حقوق الحماية، المناقشات المفتوحة والمشاركة الفعالة في قضايا حماية حقوق الأطفال، التشريعات و التطبيق، تنمية المهارات الحياتية للطفل و معارفه و إشراكه في عملية اتخاذ القرار، تفعيل المراقبة وآليات التبليغ، نهاية بتوفير خدمات الإصلاح و إعادة الإدماج في المجتمع لمن تعرضوا للاستغلال.
إن إنهاء العنف اتجاه الأطفال ضرورة واجبة على كل المجتمعات ليس فقط من خلال سن التشريعات والقوانين التي تحفظ للطفل حقوقه وحياته بل والحرص على تطبيقها وعدم ترك ثغرات قانونية للمجرمين حتى يلوذوا بالفرار أو بعقوبات مخفّفة، كما يجب على الناشطين في مجال العمل الإنساني وتقديم الخدمات الاجتماعية والنفسية الانخراط الجاد في تقديم العون لأسر الضحايا وتكوين شبكات داعمة لهم ولصغارهم، ولكن الخطوة الأهم من هذا كله هو نشر ثقافة الوعي بحقوق الطفل واحترام جسده وخصوصيته.
المراجـع القضاء على العنف على الأطفال. حماية الأطفال ضد الاستغلال الجنسي. الملتقى الدولى حول الحماية الجنائية للاطفال(2013): مخبر المجتمع والقانون ، جامعة ادرار ، الجزائر. |
أنا فخورة فيكِ جدًا 💚
بتمنى توصلي للمكان اللي بتحلمي فيه💚
هاي المرة التانية يلي بقرأ فيها النص يا شيماء
وبعيدا عن مشاعر الفخر يلي بتجتاحني بكل مقال بتكتبيه
إلّا انه هاد المقال باعث للحزن والإكتئاب لما وصلنا له.
بتمنى نخلص من هالقرف مع انه على ما يبدو لا خلاص من حيونة الإنسان.
صديقتي وفخري شيماء
ابدعتي في كتابة الموضوع المنتشر بكثرة هذه الايام رفعه الله عنا وعنكم اجمعين
لستمري فنحن جمهورك الكبير
مقال رائع عندما يخط الكاتب مقالات جريئة فهو في حقيقة الامر يخط مسائل جدا واقعية يغفل عنها الكثيرون وهي في الواقع كارثية ومستقبل لامة ترتقي نحو العلا بالقلم والفكر نرتقي جميل جميل
مقال مميز لموضوع يحتل أهمية كبيرة في وطننا العربي ..حيث يركز على فئة هي الأهم في مجتمعاتنا العربية…و دائما ما اهتم بالتركيز على دور الأسرة و التنشئة العائلية في هكذا قضايا ..
بوركت جهودك شيماء، في انتظار المزيد من الطروحات .
دمت بود
بصراحه هذا كان شي من الاشياء المشكوت عنها
خوفا ع البنت و اهلها
لكن الاغتصاب بشكل عام قذر.. لما تنتهك قداسة الطفل لمجرد قضاء ذئب بشري لشهوته .. وما يليه من مشاكل نفسيه للطفل و الانطواء والحقد على الناس عامه
ويولد طاقه سلبيه ستنفجر بشكل سيئ جدا على المحتمع بشكل عام
احسنتي النشر أ. شيماء
شيءٌ ما، كنتِ مُوفّقة جدًا في انتخاب الموضوع، هو منتشر بشكل مقرف، مع هيك محتاجين لحدا يسلّط الضوء عليه بهذا الأسلوب المُلفت والرزين، فخورين بالصديقة شيماء وما بدنا قلمك يوقف عن حد، دمتِ بوعيٍ جذوره لا تنطفئ